الكلب

سمعت دقا خفيفا على الباب ، فخرجت من الدار استقبل القادم . رأيت رجلا يبتعد ، ورأيت تحت الباب رسالة … تركت الرجل يذهب والتقطت الرسالة . قرأت سطورها فلم أفهم شيئا . أعدت قراءتها مرة ومرات ، فاستعصى علي فك رموزها . وضعتها فوق طاولة صغيرة بجانب السرير ، وخرجت من البيت … قررت الذهاب إلى البحر . في منتصف الطريق عدت وأنا أكاد أجري . خفت أم يصل حامد قبلي إلى البيت ويقرأ الرسالة . وحامد صديقي . يقاسمني نفس البيت ، ولا أخفي عنه حتى خلجات قلبي . لكنني لا أريده أن يقرأ هذه الرسالة . هذه الرسالة جرح أريد أن أزرعه في قلبي ، ولن يشاركني ألمه أحد .

 

*****

عندما دفعت باب المنزل ، خبطتني رائحة القهوة التركية ، واستقبلني حامد بكأس يصاعد منها البخار . وضعت الكأس فوق الطاولة الصغيرة ، قرب السرير ومددت يدي نحو الرسالة .

قال حامد :

– مبروك . أخبار سارة إن شاء الله ؟

وضحك .

فوخزتني سكين حادة في قلبي .

قلت له :

– شكرا .

وخرجت .

قال :

– اشرب قهوتك .إنها ستبرد .

قلت :

– لا يهم . هل لديك وصية لأهلك ، رسالة أو نقود . إنني عائد إلى البلد .

قال :

– لا  .

لا وخزتني كطرف السكين الحاد .

وقام يغلق في وجهي الأبواب .

قلت :

– اتركني  يا حامد . فما عاد لي متسع من الوقت أضيعه

فقال :

– هل أخذت مستحقاتك من مؤجرك ؟

قلت :

– سأعود . لن أبقى طويلا في الوطن . سأقضي شأنا خاصا ، وسأعود بسرعة .

قال ، وهو يكاد يبكي :

– لن  تعود .

قلت وأنا أطبطب على كتفه بحنان :

– مع  السلامة يا صاحبي

قال ، وهو يمسح دمعة نزلت على خده

– لا تترك الرسالة تقتلك .

قلت ، وقد صار شكي يقينا :

– و هل قرأتها ؟

فقال :

– الرسائل لا تقرأ على الورق . إنها مكتوبة على جبينك يا صاحبي .

وخرجت .

فخرج ورائي .

 

*****

 

ذهبت إلى محطة سيارات الأجرة … والرسالة في جيبي … والكلب ينبح داخلها … كنت أسمع نباحه الأجش ، فأرتعش ، وتصيبني رعدة . وأقول وصراخي يخرج من كهوف الروح :

من يوصلني إلى البلد فأدفع له مقابل السفرة روحي .

ولا مجيب . إلى أن جاء حامد إلى المحطة .ناولته الرسالة فردها إلى جيبي وهو يقول :

– عد  معي الآن إلى البيت .

تركته يسوقني ، وأغلقت فمي بالمفتاح .

وعدنا … ونباح الكلب لم يسكت . كان يهر ويشخر ويعصر قلبي عصرا .

عندما وصلنا إلى البيت ، قصدت المطبخ واخترت سكينا حادة وأخرجت الرسالة من جيبي وأخرجت حورية من بين سطور الرسالة ، فذبحتها .

ذبحتها من الوريد إلى الوريد

 

*****

 

هل تعرفون حورية ؟

سأحدثكم عنها قليلا ولن أخجل . هي ابنة عمي الكبرى . وها ابنة العم تخون الماء والملح وتعشق كلبا .

وها معشوقها يعقر قلبي ، ويستوطنني داء بين الضلوع .

رأيت الدم يقطر على الأرض . ورأيت الكلب – كلبها – يخرج من الورقة التي غطت بها سوأتها حين لدغتها السكين .

تشمم الكلب الدم المسكوب فوق البلاط ، وهر داخل قلبي . ضربته بالسكين بين عينيه ، وقلت لحامد وهو يدفع الباب بكتفيه دفعا قويا :

– لا  تحاول ، فوراء الباب مزلاج كبير .

قال مستعطفا :

– وأنت ، لماذا لا تخرج ؟

قلت :

– حتى أنتهي من قتل حورية والكلب .

قال :

– وهل هانت عليك ابنة عمك إلى هذا الحد ؟

وابتعد عن الباب …

فعادت حورية تسكن أسطر الرسالة . وعاد الكلب يهر داخل جيبي .

 

*****

هذا الكلب الذي يهر الآن داخل جيبي هذا الكلب الأبيض كالثلج – كلبها – وجدته ذات يوم في البرية . لقيته جروا أعمى ، تركته قافلة في طريقها ، وارتحلت إلى الشمال .

قافلة تسير * في بلاد الخير .

سيري أيتها القوافل ، ولا تتوقفي .

سيري أيتها القوافل ، قوافل الجمال وقوافل سيارات الأندروفر برجالك البيض السمان ، الملثمين بالكوفية العربية .

سيري أيتها القوافل ولا تتوقفي . واتركي لنا في طريقك مما شئت : بعر الجمال  والعوازل الجنسية وحبوب منع الحمل ومرض الإيدز والكلاب .

 

*****

 

هذا الكلب السمين الذي يهر الآن في جيبي ربيته مع أولادي في البيت . نام معهم في فراش واحد . وأكل مما يأكلون . وكبر حتى صار كالأسد .

قلت لحورية وأنا أغادرها والبيت والأولاد والأحلام التي لم تتحقق ، وأقتفي أثر قوافل الجمال المحملة بالملح والخرز وجلود الخرفان المدبوغة :

– تركت لك رجلا يحرسك ، فلا تخافي .

وربت على ظهر الكلب .

ردت وكأنها تترقب إقراري هذا :

– لن نخاف مادام معنا بوبي

هكذا أسمت الكلب .

وراحت تثني على شمائله وكأنها تتغزل بحبيب ، وأنا أعد حقائب السفر .

وذهبت ، وبقي بوبي في الدار يحرس النعاج وقن الدجاج ، وينبح السحاب المار فوق سماء البيت ، وينام في الليل متوسدا ذراع الباب . حتى جاء الرجل الغريب ودفع بالرسالة تحت بابي . وذاب …

هتك الغريب أسراري هناك ، وجاءني غماما أسود حط فوق القلب المثخن بالجراح :

زوجتك تخونك مع الكلب في بيت نومك .

 

*****

 

أغلقت أبواب السماوات السبع وفتحت باب المطبخ بهدوء حتى لا يسمعني حامد . ورجعت إلى سريري . ولم أشعل نور الكهرباء . تحسست بيدي الغطاء ، وتمددت على السرير . جعلت الرسالة تحت الحشية ، وتمددت بكامل ثيابي فوق الفراش البارد .

سمعت طرقا خفيفا على الباب . أغمضت عيني وقلت :

– ادخل يا حامد

قال الطارق :

– باسم الله مرساها

ولفحت وجهي نسمة خفيفة . وسمعت أزيزا وصريرا يشبه احتكاك عجلات طائرة بأرض المطار . وأصابتني رعدة شديدة ، فناديت :

– دثرني يا حامد …

زملني يا حامد …

فرد على استغاثتي صوت نسائي أعرفه جيدا :

أنا حورية يا أيها المزمل . قم وانظر في عيني إن استطعت .

ورميتها بالرسالة ، فقالت

– آه …  الكلب ؟ ألم توصني به خيرا وأنت تعد حقائب السفر ؟ .

ألم تقل إنه أحفظ للود من بني البشر ؟

فصحت :

– إذن فعلتها ؟

فقالت :

– ألم  تقل إنه رجل البيت بعدك . فكيف لا أطيعه إذا دعاني ؟

وجلست على حافة السرير .

التفت يمنة ويسرة ، فرأيت أمامي صورة معلقة على الجدار . في الصورة ، فدائي يحمل رشاشا و … ثورة ثورة … حتى النصر . غمزته بعيني فأعطاني الرشاش ، فصوبت نحو رأس حورية وأطلقت النار .

رأيتها تتخبط في دمها . وجاء حامد يجري . قال :

– فعلتها … ، إنها لن تموت بطلقة واحدة .

وخرج .

أرجعت للفدائي رشاشه ، فرفع في وجهي علامة النصر معكوسة إلى الأسفل . وأعدت صورته ّإلى الجدار فغطى وجهه بالكوفية ، وبكى نشيجا متواصلا ، لا ينتهي …

قلت له : حطم بلور الصورة ، وتعال عندي أحررك وتحررني .

وسكت ، فسكت .

 

*****

 

ودفع حامد من جديد باب الدار ، ودخل ، فدخل وراءه كلب .

قلت : هذا كلبنا ، فمن جاء به إلى هنا ؟

رد حامد مرتبكا :

– وجدته في صندوق البريد مع الرسائل .

وتشمم الكلب حورية ، فأفاقت .

قال حامد ، وفي عينيه إصرار غريب على الانتصار :

– ألم أقل إنها لن تموت بطلقة واحدة .

وأقعى الكلب بجانب حورية ، فدست رأسها بين قائمتيه الخلفيتين ومصت ذكرة . فسال لعابه و عوى وحرك ذنبه يمنة ويسرة . أصابني القرف وهي تتعرى أمامي وتغازل الكلب ، تحت صورة الفدائي ، فهممت بهما لكن الكلب كشر عن أنيابه ونبح بصوت راعد . أخافني النباح ، فناديت حامدا  لكنه قال لي :

– أنت وشأنك يا صاحبي . هذه قضية داخلية لا ناقة لي فيها ولا جمل .

فرددت عليه محزونا :

– دعنا من النوق والجمال يا أخي ، وتعال نتعاون على هذا الكلب الذي أكل المرأة وسيأكلنا بعدها لا محالة .

قال ، وهو يهز كتفيه :

– أكلها بإرادتها : والبندقية فوق رأسك .

بحثت عن الصورة ، وناديت الفدائي . قلت عله يساعدني في هذه الساعة العصيبة .

قال ، مستسلما لقدره :

أنا كما ترى يا سيدي ، صورة معلقة في الجدار للزينة

فقط للزينة لا غير ، فأغمضت له عينيه حتى لايرى المرأة والكلب .

وذهبت إلى المحطة . جلست في المقعد الخلفي في سيارة الأجرة الراجعة إلى البلد . دفعت لصاحب السيارة معلوم مقعدين ومددت رجلي محاولا النوم ، فدست على لحم سخن ، طري . كانت حورية بجانبي تجلس في المقعد الخالي ، وتتألم بصوت مرتفع جعل السائق يلتفت وراءه ويسألني إن كنت أحمل في داخلي إمرأة ؟

لم أرد على إهانته ، فشجعها سكوتي ، ومدت لي لسانها ، وعرت عن فخذ سمين .

قلت ، مستسلما لمشيئتها :

لماذا تتعهرين في هذا المكان العمومي ؟

ودست على فخذها بحذائي الملوث بالطين ، فكنت كمن يدوس على ظل .

وجاء الكلب وهي تتعطر . جلس بيني وبينها وجعل يتشممها ، ثم عضها من خصرها عضا لطيفا . وهم بها .

قلت : أرى الكلب يتغزل بك ؟

قالت : أتغار من كلب ؟

قلت : بعد العودة ، سأجعلك والكلب في خازوق واحد ، وأبيع صوركما إلى مجلة ( بلاي بوي ) لتجعلها حدث الموسم .

قالت : ستزيدني شهرة حتى لكأني بريجيت باردو ، ولن أخسر سوى سراويلك .

ووضعت كعبها في أسفل بطني وقالت :

– عقولكم هنا يا أولاد القحاب ، يا عرب آخر الزمان .

يااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا .

وأفقت وسائق سيارة الأجرة يسب ويشتم سائق شاحنة كادت تدهسنا .

قلت : هل وصلنا ؟

رد بنرفزة : إلى جهنم وبئس المصير إن شاء الله .

وأوقف السيارة لإصلاح عجلة انفلق إطارها .

ونزلت أعاونه فقال : عد إلى مكانك يا رجل ، فأنت أكثر من نجاسة .

قلت ” لماذا ؟

قال : لأن رائحة بول الكلاب ترشح من أثوابك .

فعدت إلى جوار حورية وكلبها فسألتني : لماذا عدت ولم تساعد الرجل ؟

قلت لها أنني نجس ، وتفوح مني رائحة بول الكلاب .

قالت : حقا لقد سكنك الكلب يا صاحبي .

قلت  : أي من الكلاب تعنين فهم أكثر من العد .

قالت : أنا الآن أعني كلب الرسالة التي في جيبك . أما بقية الكلاب فلم تعد تعنيني .

ووضعت يدها في مكان القلب ، فسكت إلى أن عاد السائق

التفت الرجل إلى الوراء ورفع يده يسد بها أنفه وهو يردد :

ما أنتن هذه الرائحة .

فقال بقية الركاب الذين ظلوا صامتين طيلة الرحلة :

هي رائحة بول الكلاب .

ونزلوا من السيارة . وتركوني وحدي ، فأخرجت الكلب من جيبي ، وبدأنا في النباح .

 

*****

 

جاء حامد يجري . دفع باب الدار كالمجنون ، ووضع يده على فمي حتى كاد يقطع أنفاسي . هززت جسمي هزا عنيفا فوق السرير ، وفتحت عيني .

قال : مالك تنبح هكذا أيها المجنون هل تحولت إلى كلب ؟

أدرت وجهي جهة الحائط ، وعدت أنبح من جديد .

كنت يقضا هذه المرة .

 

 

dargouthibahi@yahoo.fr

 

عن ابراهيم درغوثي

شاهد أيضاً

عيدون

“عيدون”.. الأسطورة شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *