الرئيسية / قصة قصيرة / أحزان منسية

أحزان منسية

1- كأس شاي أخضر بالنعناع :

 

أعرف أنك تحب الشاي الأخضر والخمرة والنساء .

تحب الشاي الأخضر بالنعناع . تشرب منه كل يوم ما يغرق بارجة حربية .

وتحب البيرة . هات عشرة تقول للنادل ، لا ترضيك واحدة أمامك ولا اثنتان . تضع القوارير فوق الطاولة . تلمسها . تحنو عليها . ما أبردها ، تقول لنفسك ولأصحابك . وتفرح كطفل اصطاد عصفوره الأول .

وتحب النساء .

تحب السمراوات ، عيون البقر .

 

ها أنا جئتك اليوم بكأس شاي أخضر بالنعناع . كأس سخن يتطاير بخاره في الهواء .

وجئتك بالبيرة المثلجة . بيرة يقطر عرقها على الأرض .

ولم تقبل النساء المجيء معي .

كلهن خفن منك ورفضن المجيء عندك رغم أوراق المال التي أغريتهن بها .

ألم تر كيف صرت تخيف النساء يا صاحبي ؟

تخيفهن وكأنك غول من غيلان الخرافات .

تفو … على هذه الدنيا العاهرة .

خذ الكأس .

خذ أشرب منه وحدك حتى الارتواء .

وخذ قوارير البيرة . خذها ولا تقبل نديما يشاركك الشرب .

عندما رأيت كفه مصورة على زجاج القوارير المثلج ، توقفت عن الحديث .

رأيته يطل من بين القوارير ، فتركت له الكأس والبرة .

وتركت قلبي فوق القبر .

وذهبت …

عندما وصلت قرب باب الجبانة ، رأيته جالسا فوق القبر يشرب البيرة .

قلت والفرحة تهزني هزا : هي القيامة إذن .

وعدوت نحوه .

وجدت كأس البرة ملآنا للنصف .

ورأيت أوراق النعناع الذابلة ترتعش وسط كأس الشاي .

 

2- دم أبي

سقطت السلة من يد الطفل .

سقط قلب الطفل فوق الإسفلت .

سقطت السلة .

سلة بها قارورة خمر .

جرى السائل الأحمر فوق الإسفلت .

وقف الطفل لحظة مرعوبا ، ثم وقع على ركبتيه يجمع زجاج القارورة .

تكثفت فوق السائل رغوة بيضاء .

وقع عليها الذباب . بنى الطفل سدا من التراب جمع وراءه السائل الأحمر .

وقع الطفل على زنديه .

لتذكيركم – زنداه نحيلان –نحيلان جدا .

وقع الطفل على زنديه يجمع زجاج القارورة .

يركبه فوق بعضه .

يحاول صنع قارورة جديدة . لم لا يحاول … ؟

جرى دمه .

جرى دمه فوق الإسفلت .

بنى سدا آخر بكف يده اليمنى .

ثم اليسرى .

ثم اليمنى .

ثم اليسرى .

ثم الاثنتين .

قام الطفل على ركبتيه .

نادى :

اعطوني ( لم يدر ماذا يطلب ) .أجمع فيه دم أبي

ودمي ..

 

 

 

3- أمومة

 

في المساء ،

رأيتها ممددة على جنبها الأيسر ، ترضع جراءها .

عيناها – لون العسل – مفتوحتان .

والجراء الخمسة ترضع الحليب من الضرع وتتناوش بالمخالب الصغيرة .

والكلبة نائمة على جنبها الأيسر .

كلبتنا التي لم تعرف اسما ، والتي تسبق كل يوم والدي إلى الحقل ، ولا تعود إلا في المساء .

تنبح على الغريب.

وتفرح بالصديق .

وتسهر قدام زريبة الحيوانات.

شتاء السنة وصيفها .

 

في الصباح

رأيتها ممدة على جنبها الأيسر ترضع جراءها .

ورأيت كدسا من الذباب الأخضر يحوم حولها .

اقتربت منها .

ورفعت جروا .

سال الحليب من بين شدقيه ، وهر.

تركته يسقط ، فعاد إلى الثدي يمتص منه الحليب .

وعدت أرفعه ، فعاد الحليب يسيل من بين شدقيه …

وطن الذباب الخضر ،

وحط على الكلبة الميتة .

 

 

 

4- القطط تسرق الأرانب ليلا

أحس بخطاه خفيفة فوق السطح . وأرى ظله مستطيلا على الجدار المقابل للبيت . أقوم إليه شاهرا في وجهه حجرا وسبابا وعينا يقظة …

يستقبلني على حافة الجدار .

يموء مواء ، حادا ، متواصلا …

يستفز انتباهي .

وبغادر المكان

( يقول سأعود عندما تنام ) .

أرمي وراءه حجرا ، وأذهب أتفقد بيت الأرانب …

… عندما أسمع الصرخة ، أقفز من فوق السرير ، وأندفع خارج البيت حافي القدمين .

يطعنني هواء الليل البارد طعنة واحدة .

وتطعنني استغاثة الأرنب طعنتين .

وأرى ظل القط مستطيلا على جدار الجيران .

يقف لحظة والأرنب يتخبط بين فكيه ، وصياحه الحزين يفتت قلبي .

يقطعه تقطيع السكاكين .

ينظر القط نحوي واثقا وكأنه يقول :

( ألم أخبرك بأنني سأعود عندما تنام … أيها المغفل ) .

وأعود إلى البيت .

أشعل النار في الفانوس المعلق في السقف .

وأفتح النافذة

وأشحذ سكينا على حافة الشباك .

وأطعن جرحي المندمل بالسكين .

وأكتب بالدم على حافة الجرح :

القطط تسرق الأرانب ليلا

أليس كذلك ؟؟

 

 

5- جدي

 

دست على فرامل السيارة بقوة حتى أزت العجلات . كان أمامي .في وسط الشارع العريض ، يدق الشارع بعصاه ، ويمشي بهدوء وتؤدة . تكاثرت السيارات ورائي وعلت أصوات مزاميرها . عندما التفت وراء العربات المحتجة ، رأيت في وجهه العريض ولحيته الكبيرة وحاجبيه الضخمين وعينيه الصغيرتين الحادتين صورة جدي . كدت أنزل من العربة لأحتضنه وأعود به إلى البيت لولا أصوات الاحتجاج الحادة القادمة من ورائي والتي جعلتني أضغط على دواسة البنزين .

تحركت السيارة من جديد … ولكن صورة ذلك الشيخ الذي قطع عني الطريق عاودتني بإلحاح مجنون . حركت قلبي بعنف ، وجعلتني أسرح بعيدا بخيالي الجامح …

رأيت جدي يلاعبني … يرفع قميصي عن نطني ويدغدغني بيديه وفمه الكبير فتخزني لحيته ، وأضحك مقهقها . فيضحك لضحكي . وتضحك أمي . ويضحك أبي . وتضحك القرية كلها .وتضحك الشمس والسماء … وعندما يسكت الجميع ، أواصل الضحك وحدي . وأهرب منه . أختبئ داخل حجرات البيت ، فيصيح : اخرج يا فار من هاك الغار . ولكنني لا أرد على ندائه ، فيواصل الصياح مرات عديدة ، بدون طائل …إلى أن يهددني بعدم إكمال حكاية علي بن السلطان وغول الجبال السبعة .

جدي يا جدي …جدي حارب الصهاينة سنة ثمان وأربعين . تطوع مع جماعة من أهل البلد . قال للفرنسيين انه ذاهب للحج . ولما وصل أرض مصر ، اشترى بارودة ، والتحق بالثوار . وعندما انتهت الحرب ، رجع يحمل في جسمه جروح الهزائم . قال سكان البلد انه بعد عودته من فلسطين ، ظل حزينا عاما كاملا . ولم يقل شيئا عن جراحه ، ولا عن رفاقه الذين دفنهم هناك .

ثم ، وكما تتفتح الزهور بعد صقيع الشتاء ، تفتح قلبه للحياة ذات صيف . قال : لقد ترقبت هذه الأيام مدة طويلة ، دعوني أطفر عن حزن عشرين عاما . صار لا ينام .يضع الراديو أمامه ، ويردد مع المنشدين الأغاني الحماسية :

بلادي ، بلادي ، بلادي  *  لك حبي ومرادي  .

ثم يحرك الإبرة في كل الاتجاهات يلتقط نشرات الأخبار .

 

كانت الطائرات تحترق في الجو . تشتعل فيها النيران ، ثم تسقط قطعا من الحديد الملتهب … وكنا نشم رائحة لحم الطيار … كانت روائح الشواء تخرج من فتحات لأبواق أجهزة الراديو … وكنا نرقص . نختطف هذا اللحم المشوي . نتقاسمه قطعا صغيرة في حجم كف اليد. نأكله بنهم ونرقص … وكانت النساء تزغرد بأصوات عالية ترتفع حتى السماء السابعة عندما كانت طائراتنا تهدم المعبد فوق رؤوس أنبياء بني إسرائيل الجدد . وكان جدي يرفع بارودته ويطلق النار في الهواء، ثم يحرك إبرة الراديو في كل الاتجاهات يلتقط نشرات الأخبار…

بعد ستة  أيام من بداية الحرب ، أحضرت له أمي ذات صباح قهوته وماء الوضوء . حيته ، فلم يرد عليها . قالت قد يكون النوم غلبه ، فتمدد ليستريح قليلا … اقتربت منه . رأت عينيه مغمضتين . ورأت على وجهه العجوز أحزان الدنيا كلها … نادت والدي بصوت مبحوح . أقبل يجري وجرينا وراءه … كان جدي قد مات … وكان مذيع الأخبار في إحدى المحطات البعيدة يردد : لقد خسرنا معركة ولم نخسر الحرب …

أشعل سائق سيارة في وجهي ضوء التقاطع عدة مرات ، فانتبهت إلى أن السيارة تسير وسط الشارع … حركت المقود قليلا لأبتعد عن طريقه، ثم ضغطت على دواسة البنزين …

 

 

6- القبر.

 

عندما اقتربت من ذاك الكدس . كدس الترتب . كدس التراب الذي فوقه حجر منتصب من جهة الشرق وحجر من جهة الغرب ، عرفت أنني أقف عند قبر . قبر لا كالقبور . ما كان في جبانة ، ولا قريبا منها . وما كان له أن  يصبح نواة لواحدة في المستقبل ، لأنه بعيد عن العمران ، ولأنه كان منتصبا شاهقا فوق قمة جبل .

احترت في أمر ذاك القبر ، ووقفت عند رأس الميت أفكر فيه . لكن حيرتي بدأت تتحول شيئا فشيئا إلى فزع شديد إذ رأيتني أخترق بعيني الترتب إلى أن وصلت جسم الرجل ، وصرت أنظر إليه كما لو كنت أنظر إلى شخص من خلال زجاج نافذة … رأيت الهيكل العظمي يكتسي لحما وشحما …ورأيت الدم يسيل في الشرايين . وشاهدت بعيني شعر الرأس والدقن ينبت شعرة شعرة . ثم شاهدت الجفون ترمش ، والشفتان تتحركان … بعدها بقليل تثاءب الرجل ، وأفاق كما يفيق الراقد من نومه …

كان قلبي يدق بعنف . وكانت ركبتاي يصطكان وأنا أشاهد الأرض تنشق ويخرج منها رجل يرتدي بزة عسكرية ، وينتعل حذاء ثقيلا ، ويمسك في يده بارودة من مخلفات الحرب العالمية الثانية . جلس على حافة القبر المشقوق ، وناداني … أقبلت نحوه أقدم رجلا و أؤخر الثانية… إلى أن صرت على بعد متر منه فسألني بكل لطف :

من تكون أيها الرجل ؟

فرددت عليه :

أنا رجل مغرم بالتنزه في الوديان ، وبصعود الجبال

ثم رددت عليه سؤاله :

وأنت . من تكون يا أخي ؟

فلم يجيبني . وظل ساكتا ، فسكت بدوري إلى أن بادرني :

هل المدينة بعيدة من هنا ؟

قلت : مسيرة نصف ساعة للراجل

ثم أضفت : لكنك لم تقل لي من أنت أيها الرجل ؟

رد : أنا واحد من الذين نجوا من الموت لما حاصر جنود فرنسا هذا الجبل ، وقتلوا رفاقي .

قلت : ولكنك كنت في هذا القبر …

قال :  نعم ، ولكن رفاقي ماتوا عندما أكلنهم الذئاب والضباع ، أما أنا فكما ترى مازلت حيا .

ثم وقف . وقف بندقيته فوق ظهره ، وبدأ ينحدر نحو السهل …

قلت : إلى أين لأنت ذاهب أيها الرجل ؟

قال : إلى المدينة . ألم تقل إن نصف ساعة تكفي لبلوغها ؟

عندما غاب عن ناظري ، التفت إلى القبر ، فرأيت حجرا ينتصب فوقه من جهة الغرب ، وحجرا آخر يقابله في جهة الشرق … ابتسمت في سري وواصلت المشوار …

 

 

 

dargouthibahi@yahoo.fr

 

 

 

 

 

 

 

 

عن ابراهيم درغوثي

شاهد أيضاً

عيدون

“عيدون”.. الأسطورة شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *