1- الطبلة الصغيرة
النوم يشدني إلى السرير شدا فلا أقدر على الفكاك منه ، وصوت يأتي من بعيد … من نهاية العالم . وأنا بين اليقظة والنوم .أفتح عيني فأحس وكأن ظلام الدنيا كلها يجثم على صدري ، فأعود إلى النوم .
وصوت الطبلة يقرع أذني أقرب من المرة السابقة ، وأكثر وضوحا .
صوت حزين يستغيث من جديد … استغاثة كأنها قادمة من أعماق بئر . والنوم يسرقني ، فلا أقدر على الخروج من أبوابه .
تحركت زوجتي النائمة بجانبي على السرير ، فوجدت توازني . وطرد الصحو سلطان النوم ، فأفقت وصوت الطبلة يدق داخل أذني بعنف . قفزت من على السرير ، وأضأت لمبة الكهرباء المعلقة في السقف ، فزاد صوت الطبلة عنفا . وسألت زوجتي وهي مغمضة العينين :
– مااذا دهاك ؟
فقلت لها مرتبكا :
– انصتي ، كأنني أسمع دقا على طبلة داخل الغرفة .
ردت متذمرة :
– اطفئ النور يارجل ، ودعنا ننام
ورمت بغطاء الصوف فوق رأسها .
حين هممت بالرجوع إلى السرير ، اقتحم صوت الدق على الطبلة الغرفة ، فطار النوم من العيون . ونفضت زوجتي عنها الغطاء وجاءت تستجير بي . طمأنتها وفتحت الباب .
وجدتها واقفة في البهو تحمل في يدها دربوكة ابني الصغير . حين فاجأها الضوء ، رفعت يديها لتغطي عينيها ، فسقطت الطبلة على الأرض ، وتهشمت ، فأحدث صوت الفخار رنينا وخشخشة .
أقعت على مؤخرتها تجمع حطام الطبلة الصغيرة … فاقتربت منها بلطف ، وربت على كتفيها .
كانت زوجتي قد أضاءت بيت نوم الأطفال ، وكان سرير أمي باردا كالثلج . قدتها برفق إلى الغرفة ، وجعلتها تنام على السرير، ووضعت فوقها أغطية الصوف الثقيلة . فليل الشتاء بارد هذه الأيام .
2-صاحب الحمار
إلى زكريا تامر
سار الحمار يشق شوارع مدينة المهدية وئيدا ، فقد كان راكبه يشد على اللجام بين الفينة والأخرى ليكبح جماحه .
هو حمار أشهب شبيه بالبغل إلا أنه أقصر منه بقليل . وكان الرجل الراكب على ظهره قد قارب الخمسين .كان يابس جبة من الصوف ، على اللحم ، ويغطي رأسه بلحاف أبيض ، ويحمل في يده عصا غليظة قدت من غصن شجرة زيتون . وكان يحمل بارودة أم طلقتين من النوع الذي تراه معلقا على جدران البيوت التركية في متحف باردو في تونس العاصمة .
جال الحمار مدة طويلة براكبه . زار الجامع الكبير ، ووقف أمام السور ذاهلا . رأى البنائين وهم يصلحون الحجارة القديمة ، ويضعون الملاط في الشقوق التي حفرتها السنون . ثم وقف طويلا أمام أحد أبواب السور .
قال : ها هنا دققت بعصايا ذات يوم . وهاهنا علق جنود الخليفة الفاطمي جلدي المحشو تبنا بعدما رموا لحمي لكلاب جوعوها مدة سبعة أيام .
ثم عاد أدراجه إلى سوق المدينة العتيقة . أوقف الحمار قرب مقهى ، وذهب يجلس في ركن قصي بعيدا عن الرواد الذين تركوا أوراق اللعب وحجر الديمنو ، وراحوا يحملقون في وجهه باستغراب .
كان إذا قام يعرج قليلا . وكانت بندقيته تكاد تلامس الأرض كلما حرك رجله اليسرى . الرجل الأقصر قليلا من أختها .
ظل الرجل ساكتا إلى أن جاء النادل ، فمسح الطاولة ، وسأله إن كان يريد مشروبا .
قال انه عطشان وانه يود لو يعطيه شربة ماء باردة في كوز . جاءه بالماء وبقارورة كوكاكولا . وجلس بقربه . ترقبه حتى أنهى شربه ، وحمد الله وأثنى على نبيه ، ثم سأله عن أحواله :
قال : الدنيا تغيرت كثيرا منذ أن غادرتها
وسكت …إلى أن جاءه ثلاثة من الجند يتمنطقون السيوف ، ويحملون في أيديهم الرماح . اقترب قائدهم من الرجل ، وطلب منه أوراق هويته . أعطاه بطاقة تعريفه الوطنية ، فقرأ :
– مخلد بن كيد .
وردد الضابط وراءه : مخلد بن كيداد ؟
فقال له الرجل : ألم تقرأ في المدرسة عن ثورة صاحب الحمار ؟
أنا صاحب الحمار .
ابتسم الضابط وقال له :
– تعال معي إلى مركز الشرطة . أنت مطلوب للعدالة .
سأله صاحب الحمار :
– وماذا فعلت لكم يا ابن أخي ؟
– هي شكاية من المواطنين القاطنين قرب السور . لقد ادعوا أن الكلاب التي أكلت من لحم جثتك أصابها سعار شديد فصارت تعض كل من اعترض طريقها ، ولم ينفع الذين عضتهم مصل باستور ، فأصيبوا بداء الكلب .
وتوارث الأحفاد عن الأجداد الداء إلى هذا اليوم .
قال صاحب الحمار :
– وما ذنبي أنا يا سيدي ؟ فتلك قصة قديمة . ألم ينسها التاريخ ؟
رد الضابط :
– أنا عبد مأمور يا شيخي . تعال معي أجب دعوة القاضي ، فربما تجد تفسيرا لديه .
وأخرج له من جيب معطفه بطاقة جلب مدموغة بطابع الأمير .
اتكأ صاحب الحمار على عصاه ، وذهب يعرج باتجاه حماره الأشهب الشبيه بالبغل ، وهو يردد بينه وبين نفسه :
– لقد ظننت أن التاريخ نسيني بعد هذه المدة الطويلة .
… بعد ثلاثة أشهر من الأيقاف التحفظي ، حكمت المحكمة حضوريا على المدعو مخلد بن كيداد والملفب بصاحب الحمار بالنباح مع الكلاب المسعورة التي أكات من لحمه منذ ألف عام ، فاستأنف محاميه الحكم ، وطلب من المحكمة الموقرة مراعاة سن الرجل ، وتمكينه من ظروف التخفيف القصوى .
والى ذلك الحين ، سينبح صاحب الحمار ، وسيجري مع الكلاب المسعورة في ظلام ليل الأبدية … الطويل .
3- الأرانب لا تبكي موتاها .
اليوم الأول
في الصباح باكرا :
في غفلة من الشمس ، غادرت الأرانب الجحر .
أولا ، خرج الأرنب الأسود ، الشرس ، المرقط بالأبيض .
اندفع من باب الجحر المحفور بعناية تحت زيتونة ، في جانب الوادي . قفز عاليا ، وغاب وراء الهضبة .
تبعه الأرنب الرصاصي وجلا . تشمم وجه الهواء الطري . عطس . التفت يمنة . التفت يسرة ، وغاب وسط الدغل .
جاء الأرنب البني ثالثا . وقف برهة في باب الجحر . هز رأسه ، وسلم على الشمس الكبيرة ، وقفز وراء الأرنب الرصاصي .
في المساء :
والشمس الثقيلة تختفي وراء الجبل ، أطل الأرنب الأسود من وراء صخرة ، ثم خفيفا قفز داخل الجحر . بعد دقيقة وصل ، وصل الرصاصي فطنا يقظان النظرة ، إلا أن خطوه كان ثقيلا بعض الشيء . دس رأسه في باب الجحر ،، وغاب في الظلام .
قفز الأرنب البني كالطيف وراء الرصاصي .
وهدأت الحركة أمام جحر الأرانب .
بعد ثلاثة أيام :
صباحا :
كان الأرنب الأسود أول من أطل من الباب .
جاء بعده الرصاصي .
ثم البني .
حين وصلت الشمس صرة السماء ، انهمر الصاص على الأرانب .
وأظلم وجه السماء .
مساء :
قفز الأرنب الأسود داخل الجحر .
بعد دقيقة لحق به البني مهزوز الخطو ، يكاد يخئ الباب .
بعد أسبوع :
في المساء الساكن كمقبرة مهجورة ، عاد الأرنب الأسود وحيدا الى الجحر
بعد عشرة أيام
غابت الشمس الذابلة ، ولم يطرق باب الجحر طارق .
بعد أسبوعين :
صباحا :
أطل من باب الجحر أرنب أسود مرقط بالأبيض .
جاء وراءه أرنب رصاصي .
ثم تبعهما البني .
تشممت الأرانب العشب النابت أمام الجحر ، ولحست الطل من على الأزهار التي استيقظت لتوها ، ثم قفزت ، وغابت وراء الهضبة .
كانت الأرانب الثلاثة صغيرة .أكبر بقليل من فأر المنزل .
نطت خفيفة هنا وهناك داخل الحقل الفسيح . ثم ، وكأن تعب الدنيا كلها حط عليها ، فاقتربت من بعضها ، ونامت تحت ظل شجرة زيتون .
في المساء :
عادت الأرانب إلى الجحر .
دخل الأرنب الأسود أولا ،
ثم تبعه الرصاصي ،
فالبني .
وهبط الليل على الربوة . وازدان وجه السماء بنور القمر …
www.arab-ewriters.com/darghothi/