الرئيسية / قصة قصيرة / كفن للأرواح الميتة

كفن للأرواح الميتة

1- الكف والطبلة

 

ضربت بكفك الطبلة حتى احمرت الكف . وضربت بعنف وشراسة حتى أصاب الخدر الخدر . خدر لذيذ سرى في كامل بدنك كلسعة كهرباء خفيفة . بعدها ، والعرق يبلل جبينك ويسيل على عنقك عدت تدريجيا إلى رقتك وأنت تعالج جلد الطبلة بحذق الفنان ، فيخرج اللحن الطروب من بين أصابعك كالحلم الدافئ في ليلة شتاء .

وتتصايح النسوة فرحات ، ويهللن ، ويدخلن حلبة الرقص مثنى وثلاث ورباع ، يحركن أردافهن في كل الاتجاهات ، ويلعبن بالصدور بمهارة ، ويستعرضن زينتهن : كناء منقوشة ملء الكفوف ، وأحمر على الشفاه ، والعيون غطاها الكحل ، والأفواه مدبوغة بالسواك . وهن يتدافعن ويتضاحكن ويتلامسن ويتهامزن ويتغامزن ويتساقطن مرة على الطبل ومرات في حجرك . يبطئن لحظات ، ثم يهربن خفيفات كرف الحمام .

وأنت ترى بعقلك كل شيء . تسجل في دماغك الأصوات والحركات ، وتحلم بامتلاكهن . تقول لنفسك :

– هذه سمينة رجراجة تحذق الرقص ، وتحذق أشياء أخرى لا محالة .

– وهذه الطفلة مازالت في بداية الرحلة إلا أنها نجيبة . أسمع دق قدميها على الأرض منغما ، وتحريك يديها متزنا ، وعطرها لذيذ .

– وهذه رقيقة كظل شجرة ياسمين …

وتفوح روائح الند والبخور وعود القماري والجاوي والكمون ، وتعلو الزغاريد …. فيلكزك صديقك صاحب المزمار ، فتفهم أن اللحن قد اختل ، وأنك قد سرحت بعيدا بخيالك المجنون ، فتعود للطبلة تضربها بالكف… تضربها حتى يصيب يديك الخدر .

ويعم الهياج من جديد حلبة الرقص ، فتستغل فرصة عدم انتباه النسوة ، وترفع يدك إلى وجهك تغطي بالنظارة السوداء روحك الميتة .

 

2 – تحت الشمس

 

البنت الصغيرة التي خرجت لتوها من البحر نثرت عليه قطرات ماء حين نفضت شعرها الطويل ، فمد يديه يبحث عنها لكنها ضاعت في كل الاتجاهات ، واختبأت وراء ضحكتها المشاغبة .

 

*****

 

الرجل الذي جاء الى الشاطئ مسحوبا من أنفه كما تسحب الثيران ، اقتلع شمسيته ، وطلب من زوجته أن تلحق به تحت جدار الكورنيش .

قال لها : ذاك الرجل الجالس وراءنا ، رأيته يلحس صدرك بنهم ، ولم يخجل حين وقعت عيني في عينيه مباشرة .

 

*****

 

لم ير العلم الأسود الذي كان يرفرف عاليا على السارية الطويلة ، فهمس لنفسه : ما أجمل هدوء البحر هذا اليوم .

 

*****

الشبان الذين كانوا يلعبون الكرة على الرمل ، أصابتهم الحيرة حين جلس وسط ملعبهم . ولم يقل شيئا عندما تناوشته الأرجل من كل مكان ، فغادروا إلى جهة أخرى ضاجين بالضحك .

 

 

*****

صفير الشرطي المكلف بحراسة الشاطئ جعله يفقد أعصابه ، ويصيح في وجه السماء : لماذا لا يكف هؤلاء الأطفال عن الصفير ؟ هل تحول الشاطئ الى ملعب كرة قدم ؟

 

*****

وطرب لخشخشة الرمل تحت زفير الأمواج المرتدة إلى الأعماق ، فأغفى تحت الشمسية المزركشة بأريج الربيع ، ونام …

عندما أفاق ، قام خفيفا . خفت أن يدوس ظل شمسية في اندفاعه المجنون نحو الأمواج ، فأعطيته يدي ، ومشيت أمامه وسط غابة الأرجل الكثيفة وصياح لاعبي الكرة وصفير أعوان الحماية المدنية وهمس العشاق والضحكات المرشوشة بماء البحر …

 

 

 

 

 

 

3- العصا البيضاء

 

تمر بك السيارات مسرعة وكأنها تهرب من عصاك التي كنت تلوحين بها .

كنت تستمعين لطشيش الماء تحت العجلات فتقولين لنفسك : ما أوسع رحمتك يا الله .

وتعود السيارات إلى عدوها المجنون لا تحفل بطول وقفتك على الطوار .

ويمر الزمن . يلاطفك تارة ، فيمسح عن وجهك الأسى ، وطورا يهطل على رأسك مدرارا .

هاهي سيارة تقف بالقرب منك . يأتيك صوت لطيف : ها ، أنت يا امرأة، إلى أين تريدين الذهاب ، فالليل على الأبواب ؟

تقولين للصوت انك ذاهبة لمبيت الطالبات ، وانك هنا واقفة وقد تعاقبت عليك فصول السنة. وان أمطار الخريف بللت ثيابك ، وأن هجير الصيف مر من أمام وجهك وان السيارات التي مرت من هنا كانت كلها عمياء .

وتضعين في يده العنوان .

فيرد عليك : محضوضة أنت ، فطريقنا من هناك .

وتنزوين في المقعد الخلفي ، والسيارة تهدر ، وصوت مطربة الشباب يصدح بأغاني عبد الحليم حافظ ، وأنت تحبين كثيرا هذه الأغاني ( جانا الهوى جانا ، ورمانا الهوى رمانا ) . وتقولين لنفسك : لماذا يصمت هذا السائق ، وأمثاله في العادة كثيرو الكلام ؟ ويتغير صوت الطريق تحت العجلات . يصير الضجيج أكبر ، والسيارة تخرج من حفرة لتدخل في أخرى .

وتقولين حين تمتد يد تريد قطف التفاح النافر فوق صدرك :

– اللي شبكها اخلصها .

وتزجرين اليد السارقة :

– يا آدم ، هذا التفاح أخرجك من الجنة ، فلا يغوينك الشيطان .

ويسكت المحرك ، فيضج قلبك في الصدر . وتبحثين عن النجدة . لكن صوتك تكتمه يد غليظة . وتحسين كأن بشيء يلامس جنبك . شيء كنصل السكين . وتحاولين العودة إلى الصراخ فيضيع صوتك في الحلق الذي أصبح يابسا كسبخة ملح .

ولم يكتف الغزاة بالتفاح . استباحوا القلعة بعدما دكوا أسوارها المنيعة … وكانت يداك تتحسسان الوجوه .تبحثان عن قرون الشيطان . وكنت تتقين عزلاء الرماح الهائجة .

حين همدوا سمعتهم يتهامسون :

لا تخافوا ، فلن تعرف هذه المرأة الطريق إلى مفاتيح وجوهنا .

وتفر الطريق تحت عجلات السيارة الهادرة ، فتعودين من جديد الى الوقوف على الطوار تلوحين بعصاك البيضاء في وجه الظلام …

 

dargouthibahi@yahoo.fr

عن ابراهيم درغوثي

شاهد أيضاً

عيدون

“عيدون”.. الأسطورة شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *