الرئيسية / قصة قصيرة / حالات وأحوال

حالات وأحوال

 غربة-1

 

خرجنا من المدرسة والشمس تلهث في السماء التي تحول لونها إلى الأزرق الباهت . والإسفلت ، ذاب وسال على جانبي الطريق . والعرق تخلل الثياب . وسيارات المازدا والنيسان وامازدا والكريسيدا والكرونا تمرق من أمامنا كالعفاريت المهتاجة ، وتختفي في غمضة عين .

وكنا وحيدين في الشارع الطويل .

قال : سنرتاح حين نصل المنزل .

قلت : كيف ؟ وأمامنا الطبيخ وإحضار الغداء ؟

أردت أن أواصل الحديث ، إلا أن جملته الأخيرة أوقفتني . فقد صار يهذي بكلام المجانين منذ أيام . وكنت أجاريه في كل مرة حتى لا يغضب .

البارحة مثلا ، قبل النوم ، دخلت غرفته فوجدت بين يديه مجموعة كبيرة من المجلات ، مجلات نسائية في أغلبها . وكان يختار صور النساء الجميلات . صور عارضات الأزياء وممثلات السينما . وكان يقصها بأنات وحذق .

قال : حتى لا أخدش ساقا أوصدرا ، فيسيل الدم وتتألم هذه الملائكة .

في الصباح ، وجدته قد غطى كل جدران البيت بنبيلة عبيد وشريهان والهام شاهين وليلى علوي .

حدثني عنهن بصوت خافت يكاد لا يسمع .

قال : حتى لا يذهب عنهن النوم ، فقد بت الليلة معهن في كلام وسلام الى أن طلع الصباح ، فسكتنا عن الكلام المباح .

في الطريق إلى المدرسة ، همس في أذني : لن نتعب هذا اليوم عند الغداء . لقد وعدتني البارحة الهام شاهين بمائدة من موائد ملوك الحيرة .

ولم أرد عليه ، فقد أصبت بأرق من جراء ضحكه العالي ، وصوت مكيف الهواء ، وضجيج المسجل والتلفزيون .

حين وصلنا أمام البيت ، وضعت المفتاح في القفل ، ودفعت الباب . وقفت مشدوها في العتبة ، فقد شممت رائحة الشواء ، وسمعت خبطا على أواني الأكل في المطبخ …

 

2-الحصن الحصين

 

وقفت في باب قاعة الانتظار المكتظة بالمرضى والمرافقين : أطفال صغار في أحضان أمهاتهم . عجوز افترشت الأرض ونامت . امرأة شابة تشكي لجارتها غبنها بهذا الولد الذي لا يبرأ إلا ليعود في اليوم التالي إلى المستشفى . رجل كهل يطلب من زوجته أن تنيم الطفل فقد أعياه الجري بين الصفوف …

ثم فجأة دخل علينا . رجل أنيق . في أربعينات العمر . أجال النظر ذات اليمين وذات الشمال، ثم اختار امرأة مسنة تقطر الطيبة من وجهها . تقدم نحوها ، وقدم لها كتيبا قال : هو الحصن الحصين ، يشفي من الروماتيزم والصداع وجريان الجوف والأورام السرطانية الخبيثة ومرض القلب ، ويداوي كل العلل . ادفعي نصف دينار فقط ثمنا لهذه الثروة يا سيدتي .

امتدت يد المرأة إلى حقيبتها اليدوية . أخرجت منها النقود ووضعت الكتاب في الحفظ والصون . وراح – والابتسامة العريضة – تسبقه ، يوزع كتبه على المرضى ومرافقيهم ، ويقبض النقود .

عرفته . رأيت في وجهه طبيب الصحة العمومية الذي كان ذات يوم ملك المستشفى .

ولم أقل شيئا .

حين وقف الممرض أمام باب الطبيب وبدأ في المناداة على المرضى ، كنت وحيدا . وكانت القاعة فارغة . قاعة الانتظار الفسيحة .

وكان طفلي الصغير يغط في النومة السابعة …

 

 

 

 

 

 

3- الموعد

 

رن الجرس فقام يفتح الباب

أمه أوصته أن يقوم خفيفا كلما رن الجرس .

وجده واقفا أمامه يسد رحمة الرب .

قال : أمي خرجت منذ مدة .

ألم تقل إلى أين هي ذاهبة ؟

رد باقتضاب : لا .

لا، جافة وكاسحة .

لا ، غاضبة ومستفزة .

لا ،  قاطعة كحد السيف .

لا ، مهلكة .

وهم بغلق الباب . لكن الرجل وضع رجله المدفونة داخل حذاء ضخم أمام وجهه وقال : هكذا إذن . لقد كبرت بسرعة … ونسيتني … نسيت الحلوى و… هداياي الكثيرة .

هم بالانصراف إلا أنه قذف قبل أن يغادر المكان :

سأعود ليلا . قل لأمك أن لا تسهو عن الموعد .

عندما تناثرت النجوم فوق خد السماء ، عاد الرجل إلى البيت . لم يضغط على الجرس ، فقد كان الباب مواربا .دلف إلى الداخل وهو يلتفت يمنة ويسرة . رأى زوجته في غلالة نوم شفافة . زوجته التي أخبرها أن واجبا دعاه الليلة للمبيت خارج المنزل . كانت جالسة على الأريكة الكبيرة المقابلة لجهاز التلفاز . وكان ابن صاحبة البيت واقفا وراءها . كانت يداه تغرقان في صدرها ، وتجنيان من ثمار الجسد …

 

 

4-عقرب

 

وقف أمام الباب أكثر من مرة . كانت الحيرة تحوم في الجو ثم تحط فوق كتفيه كالرصاص المذاب . ترك الباب نصف مفتوح وعاد من جديد إلى الداخل .أشعل جهاز التلفزيون . أطفأه بعد دقيقة .وضع شريطا في المسجل . أخرجه قبل أن تصدح الموسيقى . تمدد على السرير . أغمض عينيه ، ثم فجأة قام .اتجه نحو الحائط وضربه بجمع يده . كان الألم الذي نبت فجأة في زنده ، تحت ساعة اليد فضيعا .كان يخزه باستمرار . يتوقف لحظة ثم يعود كأعنف ما يكون الألم . حك زنده حتى سال الدم ، وانتفخت الذراع .

وعاد إلى الحائط يضربه بعنف …

ولم يتوقف عن الضرب ، إلى أن انهارت قواه .

همس وهو يسقط تحت الجدار : ما أقسى لسعة هده العقرب …

عقرب الساعة .

 

dargouthibahi@yahoo.fr

www.arab-ewriters.com/darghothi/

 

 

 

 

 

عن ابراهيم درغوثي

شاهد أيضاً

عيدون

“عيدون”.. الأسطورة شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *