جذبني قبيل أيام ورشة عمل مُتَلفزة لبعض الفيزيائيين حول أسئلة فيزيائية لاهوتية قد يحدد الفرد من خلالها فهمه لديناميكية الكون وتفاعله مع الواقع. أبتدأ المتساؤلون في طرح سؤلان ضخمان حول الواقع المادي الملموس— أو بمعنى أدق— حول الواقع الذي أغلبنا يتفق عليه بأنه واقع فاعِلي مُتَفاعِل ويُلَبِي بالغرض إن إتَخَذْنا نُظُمه وقواعده سبيلا.
والسؤالان المُكَمِلان والمُلتويان على بعضهما البعض هُما:
١- إذا كان الواقع المادي الملوس ثابت في أصله وفرعه وحقيقته، هل هو الحقيقة الإدراكية (النهائية) لفهم لُبْ وجوهر الأشياء من حولنا، أم مُجرد سقف أولي وغطاء ساتر لمستويات أعمق من الحقائق؟
٢- هل الواقع المادي الملموس هو السبيل الأمثل في إدراك تفاعلات وديمومة هذا الكون أم مُجرد (نتيجة) لتفاعلات ضمنية—ولكن واقعية— بنُظُم وبروتوكولات زمكانية مُنفصلة ولكن مؤثرة؟
ومن خلال مشاهدتي للنقاش، رأيتُ الحقيقة عند الجانبين واضحة في المعالم والبُنى. إذْ أن كل جانب من الحوار مُنْطلق من زوايا فكرية وإدراكية معينة صحيحة في الإثبات والتحقيق. هذا وإن كانت نسبية لموقعها من الإعراب، طبعاً.
فالأُستاذة الأولى ركزت طاقاتها في إبراز أهمية الواقع المادي الملموس وأنه يجب إستثماره (في ذاته) لأنه يُشَكِلْ خارطة طريق ومَسْلَك مضمون في التعرف على ماهيات الأمور والأشياء من حولنا. وأنه بدون ذلك الواقع المادي والملموس، سندخل في دائرة الإسهاب والعدم، إذ لايوجد إلى الأن أساس علمي متين—عدا فيزياء الكم— للخوض في نسبيات ماوراء هذا الواقع ومن حوله. ومن عنده علم تجريبي في ذلك، فلـيفتينا في أمرنا هذا.
أما الأستاذ الأخر، فأراد أن يطرح الجانب الأخر من المعادلة ويستثير كيفية ديناميكية عقولنا وأجسامنا الغارقة فيسيلوجياً وسايكولوجياً في ميادينها، وإنها واقعاً، وفي كثير من الأحيان، تُصَورْ لنا مشهداً يبدو حقيقياً في الظاهر ولكنه مليء بالتحيزات والتناقضات نسبةً لمفاهيمنا وخيالاتنا وأفكارنا. ونسبةً أيضاً لديناميكية المحيط الخارجي المُعقدة من حولنا. فـفي نظرته المُستمدة إلهاماً من نظرية إينشتاين النسبية، ليس هنالك واقع قياسي مُطلق وثابت لنا جميعاً، بل كل واقع مُتغير بطبيعة كينونته وسراياه الماديه والفوق مادية. وهذا فوق كونه صحيح لحدٍ كبير، تحكيم صائب في رفض إغلاق هذا الباب الواسع في فهم الواقع من نقطة أعمق وأكثر فعاليةً وإلماماً.
والحقيقة الوسطية بين هذا وذاك هو أن العالميّن الإثنين حاولوا أن يطرحوا قضايا مختلفة نوعياً. فكما أنه صحيح أن هذا الواقع يتلون بتصوراتنا المتغيرة تجاهه، هنالك لون أقرب من لون، وتصور أقرب من تصور، وفاعلية أكفأ تفاعلاً وإستثماراً من فاعلية أخرى في إنتسابها للواقع الملموس. وعلى الرغم من عدم وجود حقيقة مطلقة بالفعل، إلا أنه من الإمكان للإدراك البشري أن يرتفع بالدرجة والنوع من مستوى إلى أخر ومن سِلّم للذي يليه. وهنا يكمُن فاعلية توظيف الخيال في الواقع وربط الواقع بالخيال— لا الفصل بينهما أو التخلي عن ركن من أركان واحدٌ منهما. هِيَ درجات في الربط والمزج تمتد في طولها من عدمية الجنون لأضواء العبقرية.
فالمجنون الذي جُنّ عليه سراديب الليل ومتاهيه ليس إلا فاقداً للواقع المادي الحقيقي والملموس، وإن سَبَبْ جُنّون هذا الليل عليه وإلتفافه به هو عدم إنطلاقه من مركزية الواقع الحيّ في لمس حتى أبسط قشور الواقع والحقيقة. أما العبقري الذي جَنَنَ الواقع بمافيه لم يكتفي كأغلبنا بالقشور فقط، بل على الرغم من إنطلاقه من نقطة الواقع الأساسية— وهِيَ الواقع الملموس— تَبَحَر أكثر (من خلالها) بين جذورها وكواليسها. فهو في ذَلِكَ يزرع أملاً مقترناً بعمل وليست أماني مُقترنة بِعَدَمْ. فليس هو بالمتصلب المادي البحت و لا هو ذاك الخارج من دائرة الإمكان إلى العدم، بل مُبْتَغٍ بين هذا وذاك سبيلا.
إذاً، لابد الإذعان أن التصوران يكملان ويغذيان بعضهم البعض، والتحيز لواحد من تلك التصورات على الأخر قد يُخْلي بتوازن الخيال الواقعي نسبةً للدماغ (المادي) وإستلهامه أو عقله (الـلامادي). وهذا يدخلنا في كيفية عمل هذا الدماغ المُحيّر: هل هو المؤثر الطاغي على محيطه أم محيطه هو الذي يؤثر ويتأثر به وفيه— أم هو مزيج لزج بين الإثنين؟
الحقيقة أن الأجابة على هذا السؤال صعبة نظرياً وقد تكون متفاوتة من شخص لأخر. وكذلك أيضاً ليس هنالك إلى الأن دليل علمي أو إثباتات مُقْنِعة لِتبني شرح على الأخر. ولأنه لايوجد (حتى الأن) أساس علمي لتفسير ديناميكية عقولنا نسبةً للواقع، سـنفترض الأقرب للصحة وهو أنه— بشكل عام— مزيج لزج بين الإثنين، وإن تفاعلات الدماغ مع الواقع تَتَبدل وتَتَشكل حسب الظروف والموقع الزماني لها. فتارةً هو يؤثر في محيطه الخارجي بنسبة أكبر من تأثير المحيط الخارجي فيه، وتارة أُخْرَى يكون للمحيط الخارجي القاسم الأكبر في التأثير عليه. وذلك نسبةً للقوة الكامنة للإثنين في تلك اللحظة وفي ذلك الزمن. وهذا من المُمكن أن يُعَبر عنه بمثال بسيط.
فأغلبنا قد يتفق أن قدرته ومرونته الفكرية والعقلية تترواح خلال الأربعة وعشرون ساعة. فتارةً هو سَبَاق للزمن وتارةٌ أُخْرَى زمنه يسبقه ويَلّتف عليه ومن حوله. وأغلبنا قد يتفق أيضاً بأن تلك المرونة والقدرة تتبدل بحسب المكان الذي هو فيه. فالقدرة والمرونة على العمل على المكتب هو أسهل بكثير من القدرة والمرونة على العمل في غرفة النوم. والقدرة والمرونة على التأمل والتفكر عند شُرفة المنزل هو أسهل بكثير من القدرة والمرونة على التأمل عند (كراج) السيارة شديد الحرارة والبأس. وهكذا.
وعلى الرغم من إعتقاد بعضنا أن تلك الحقائق بديهية ولا تحتاج إلى تحقيق، تِلْكَ النتائج قد تزودنا بفائدتان عمليتان أساسيتان:
الأولى، هِيَ أن نقرأ واقع عقولنا بشكل جيد من جانب، وواقع محيطنا بدقة أكبر من جانب أخر. وذَلِكَ لِكَي لا نتخذ قرار سابق في إفتراضنا للحقائق الضمنية التي لاتعكس الحقيقة النهائية.
والثاني، هو أن ندرك أن فوق الواقع الذي ندركه بالبديهه (common sense)، هنالك واقع يُبرمج بإستمرار عواطفنا وكينونتنا وأفكارنا من دون أن نشعر فيه أو نفطن له. وإدراك ذلك الأُفُقْ قد يعطينا قدرة تمكينة أكبر في العالم الواقعي من خلال فصل عقولنا عن محيطها وظروفها.
فالمدة الزمنية الذي يعمل فيها الجهاز العصبي ليتراسل مع الدماغ وينتج أفكاراً هي في أقل من جزء من الثانية. وهذا قد يُنبهنا على أن لا نأخذ أرائنا وثوابتنا دائماً على محمل القوة والجد لأنها قد تكون ضحية لتلك التفاعلات الأنية. وهذا يعني أيضاً إن عاداتنا وثوابتنا لايُمكن لها أن تتبدل إلا بمحاولة إدراك وإستيعاب هذا الزمن العاصف الذي هو كلمح البصر بل أقرب. ونظرية إينشتاين في النسبية قد تعطي أملاً في تشخيص ذلك.
فإينشتاين رأى أن الإحساس بمرور الوقت هو نسبي نتيجةً لطبيعة الجسم الماهية والكيفية وسرعة حركته ومرونته. وأقرب مثال واقعي هو أن إحساس السُلحفاة بمرور الوقت ليس كإحساس الذباب أو الغزلان، بل كلٌ في فلكٍ يسبحون. وبناءً على ذلك، نستطيع أن نستنتج أيضاً أن إحساس الإنسان بمرور الوقت هو متغير حسب مرونته العقلية وظروفه الزمكانية: فإحساسه بالوقت عند نومه لا يتطابق مع إحساسه عند إسيقاظه. وإحساسه لوقته في حزنه ليست هِيَ مثل أحساسه عند فرحه. وهذا عملياً ملموس.
وإذا كانت تلك المفاهيم صحيحة— وهِيَ واقعاً صحيحة— فـهذا يعني إننا من الممكن أن نتحكم ونطور درجة إدراكنا لـعبور الوقت (من خلال عقولنا)، وبالتالي، نَفْطِن لتفاعلات أنية وسريعة كـ تفاعلات الجهاز العصبي مع أدمغتنا، وبالتالي، نستطيع أن نَتَحكم في أفكارنا ونستثمرها في مواضع أكثر فاعلية من تلك التي نستمدها من التفاعلات العصبية بالمجان. وهذا ربما يأتي بعد محاولات جدية في تشخيص الواقع وتشخيص كيفية عمل عقولنا، بالطبع.
وعلى الرغم أنني لا أريد أن أخوض في متاهات الدين أو السياسة، وأردت لهذا المقال بأن يتطبع بطابع علمي يدعمه، إلا أنه وَجَبَ عليّ القول— للذي هو مُهتم لرأي الدين والعقيدة— أن القرآن كَذَلِك نَبْهَ على (نسبية الواقع) من جانب (ونسبية الزمن) من جانب أخر.
والأيات كثيرة في ذلك الشأن، كـقوله: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). وهذا قد يشير على أنه للواقع ظاهر ملموس يُرى بالبديهة والفطرة وباطِناً يستثيره لايرى بِتلك البديهة النمطية.
أو قوله أيضاً في نسبية الوقت (وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) أو (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أو (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ).
فـجميع تلك الأيات— وغيرها— إن كانت ترمز لشيء فَهِي تعطي الباحث في هذا الشأن إشارات وتلميحات جدية— ولكن سريعة— في نسبية الواقع والزمن.
مَغْزى القِصّةِ ومَغْزى كاتبها هِيَ: معرفة وإدراك التفاعلات الفوق مادية قد يفيدنا في إستقراء أدق للمحيط والواقع المادي من حولنا، وبالتالي، محاولة إستثماره وتوظيفه على النحو الأنسب والمسلك الأمثل.