دراسة نقدية تتناول:
الشاعر الكبير عبد الكريم كاصد
الاستقلال النوعي في محاكاة الصورة والتشكيل
جعفر كمال
الجزء الثاني:
يسعى الشاعر لأن يحقق وجوده الخاص المميز، الذي يعتمد أساساً على مادته، والتحكم بتطوير أدواته المحكمة، واختيار الكلمة ذات الجرس الحساس، الذي يشع بإحكام الكلمة المتنادهة صوتياً، والمتفاعلة عبر تداعيات موسيقاها. ولهذا فالذائقة الفنية عند كل شاعر تختلف باختلاف خصائصها اللغوية، ورنين بنائها، وإيقاع تعابيرها. والتي تتشكل في ثلاثة بناءات:
1- البنية الفنية العامة
2- البنية الإيقاعية
3- البنية التصويرية
وهذه البناءات تشكل تحسس سمعي بسروح تفاعلها الصوتي القائم أساساً على دور المخيلة وفضائها اللا محدود، في مستوى الوعي الانفعالي في جمالية النص ومدى انعكاسه على القارئ. عندما ترتكز ولادته على وحي المحسوس التخيلي الشعري، فالشعر توهج خيالي غير منظور يصل المتلقي عبر دفعات نهداته الذاتية والتخيلية، كجزء من ملامسة الشاعر لتلك الحالة، وتداعياته التي تتجذر في القصيدة. إذن فالشاعر هو مشروع حضاري لعصره، كونه يشكل محور التلاقي الفني والمعرفي بآن على مجمل الثقافات الفكرية والاكاديمية والإبداعية الاخرى، إذ يؤكد صلة التيار الأدبي والفكري الأنموذجي بالتراث والمجتمع. وقد اجتهد الجيل الستيني متأثراً تأثراً غرامياًً بفكرة الحداثة، بعد أن أسس لها جيل الرواد، فاجتهدوا في فك قيود القصيدة العمودية وتحريرها من هيكلتها الصارمة، إلى فضاء واسع يطلق للقصيدة حريتها في البناء بشكليها الداخلي والخارجي، بمعنى خلق الجديد الحداثي أو عصرنة التغيير، كون هذا الجيل تتلمذ بصدق وإخلاص وبعمق على الثقافة الغربية، وقد لاح عند الكثير من شعراء هذا الجيل تأثرهم: ببودلير.. دانتي.. والت ويتمان.. عزرا باوند.. اراغون.. ت.أس. اليوت.. ورامبو وآخرين، وهذا دليل انفتاح المثقف العربي على الثقافة الاوربية، وقد بيّنَ ” البيان الشعري ” الذي أطلقه الشاعر العراقي الكبير فاضل العزاوي، وناقشه الشاعر عبدالكريم كاصد بموسوعة فكرية أجاد في تحليل مضامين البيان ورفده بمعلومات قيّمة مفيدة ومهمة، مؤكدا تبيان تأثير الشعر الاوروبي المعاصر والواضح على الشاعر العربي. ولم يكن هذا الجيل جيلا مجددا للفن فحسب، بل كان جيلا ممهداً للثورة ومتأثراً بها، ضد الدكتاتوريات التي نشأت في تلك الحقبة من خلال سعة إبداعه الثقافي. وقد انجلى شاعر الجيل الستيني مبارزا قوياً بصراعه ضد التخلف والطغيان وذلك بالدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة بشكل خاص، والطبقات الضعيفة والفقيرة، وقد تأثر هذا الجيل أيضاً بشعار الحزب الشيوعي العراقي “ياعمال العالم أتحدوا”، والاممية الفكرية وعلاقاتها المجتمعية المطلقة، وقد انضوى الكثير منهم لهذا الحزب مؤيدين أفكاره التنويرية التي تتلاءم وطموحاتهم الفكرية والثقافية والانسانية، وأيضاً في تنويع الثقافات التي جاء بها، حيث وجدو هذا الحزب السهل المبسوط أمام إبداعاتهم الخلاقة نحو إشاعة الحرية العامة والأخذ بمجتمعاتهم إلى السهل الخصب للديمقراطية، وقد اتصف هذا الجيل بالجيل الوسط مابين شعراء: جيل الرواد الذين مثلوا القيمة الفنية العالية الدقة والإبداع في شاعريتهم، وبين جيل سبعيني مرادف في تنوعه، حيث لا يقل أهمية عن الجيل الستيني في التنوير الإبداعي والخلق الفني المميز. ولا أجزم أن كل شعراء الجيل ” أي جيل ” يمثلون الصفوة في الإيقاع والرشاقة الأسلوبية في خلق النص الشعري المميز، كون الشعر مثله مثل كل الفنون الأخرى يخضع لتلجيات الفكر ومستوى الألهام عند الأديب. يقول شاعرنا عبد الكريم كاصد في مقابلة له في كتاب: ” أن تجليات هذا التحول النوعي لم تستنفذ بعد إذ لا تزال هناك أشكال عديدة في الشعر العربي لم تترسخ حتى الآن كالتيار الذي يمثله شعراء عديدون ولا سيما في الشعر العراقي، وهو تيار يتعامل مع الواقع اليومي بتفصيلاته، موظفاً هذه التفصيلات من أجل التعبير عما هو أعمق في هذا الواقع. 1″ لهذا ثمة بحث مستمر في الوشائج الداخلية التي تكشف عنها هوية الشاعر المحكومة بالأسرار، والتي تجعل من الإبداع خيوط حرير تجمع: بين موسوعة الشاعر الثقافية وعلومه، وبين خصوبة وتنوع سهلهِ الإبداعي.
في أحايين نادرة تطالعك دواوين شعر، لقصائدها بوحٌ يفيض شفافية، وبلاغة معنى، وصفوة خيال سارح في فضاءات راقصة بثوبها الأبيض الشفاف، ومن هذه البلاغات الشعرية أخترت للقارئ هذه القصيدة المتناغمة في تركيباتها اللغوية، وهمسها الفني الراقي عذوبة، حين ينطق لسانها جواهر الكلام، من وحي تدفق انبعاثها الروحي:
سكينة الأهواز
لـ ( سُكينة ) رائحة الأهواز
والطيرُ المفتوح على الجنّةْ
وحُبيباتُ الطلع الأبيض في جيبي
حين تطالعني
بالشعر المقصوص وثوب العرس
تفوحُ بيوت الطين
بالماء المرشوش ورائحةِ الأهواز
أصغي مشدوداً للخفّين
أسمع همسّ قواربَ في النهر
وأراك سُكينة
بالشعر المقصوص وثوبِ العرس
وراء الماكنة اليدويّة
بيضاءَ
تخيطين
كحُبَيْبات الطلع الأبيض في جيبي
آه سكينة
كيف رأيتك تبكين
جالسةٌ تحت شجيرة قلبي
(ديوان النقر على أبواب الطفولة)
نتوقف أولا عند مدلول تجانس الجملة الشعرية وأختها، فينبسط أمامنا معنى الحس الدلالي التجاذبي في المعنى، حسب قواعد اللغة التي تميل بنا إلى هزة نفسية محببة في النص، وحسن اللفظ، وحلاوته في التصاعد الإيقاعي المرن، عبر موسيقاه الداخلية التي تظهر علانية من خلال إيحاء بوحه التواتري، كاشفةً عن المعنى الحسي، الذي يجمع إرهاص الوعي الوجداني في جودة معانيه، وبين الشاعر وتكوين الأنثى سُكينة، وهذه القصيدة تمثل العاطفة الصادقة، التي وجدناها تجمع بين رقص مشاعر الكلمات، وبوحها المعلن، وهو أي الشاعر في هذه الحالة الانسجامية المتصاعدة في فضائه التخيلي المطلق، يكون على وعي منسجم تماماً مع التداعي النفسي الخاص، الذي يعلن عن ولادة تبوح بالصورة الشعرية، عبر إيحائه الذي ألّمَ به بتأثير سُكينة، وطبعها الأنثوي الجذاب المميز بين البشر. والصورة التي ينقلها لنا الشاعر في هذه القصيدة، هي حقيقة موجودة ولها واقعها الملموس والمنظور، وليس خيالاً عابراً في رؤى الشاعر، بل هي وجود مادي ألقى بمؤثراته الجمالية الواقعية على الشاعر، فأثار إحساسه الإبداعي وفجر ينابيعه النقية، ذات اللغة المموسقة في تجلياتها الموحية في رقصها الفني، الذي استطاع بنجاح بالغ الاهمية، توصيل طبيعة سكينة وتشكيلاتها الروحية والجمالية، وانتمائها البيئي إلى القارئ بصورة.. وكأنك تراها أي سكينة تجلس أمامك خلف الماكنة اليدوية:
لسكينة رائحة الاهواز
هذه الصورة الشعرية في هذه الجملة التي تربط الخاص بالعام في: سكينة الاسم= الخاص.. والاهواز= العام، وبهذا نجد الجملة المركبة هذه تقودنا إلى مفهومين قالهما ماركس ” الانسان وليد بيئته ” و “الخاص جوهر العام” أما كلمة “رائحة” في وسط الجملة ربطت المعنيين ربطا معرفياً وفنياً: لنأخذ سكينة التي تأنسجت عبق المكان كونها ابنة الاهواز، فنهلَتْ من واقعها طبيعة العلاقات الاجتماعية المتآخية، والدليل هنا أن الجمال الذي يفيض حسنا بتكوين سكينة: مستمد من عبق الروائح الزكية وطبيعتها، التي طرزها الشاعر بمفردة “رائحة” وهذا يدلنا إلى أن هذه الجملة الشعرية نفسية في جوهرها ومنشئها، أما اللقطة البلاغية فتقودنا إلى الجملة الثانية التي تأخذنا إلى التصاهر الفني الجميل، بين الجمال الأنوثي عند البعض من النساء، وبين موهبةٍ أذكتْ وأبدعتْ في حكمتها الصورة الشعرية فأحالتها إلى رقص غنائي يطرب السمع ويفرح العينين في:
والطير المفتوح على الجنة
لاشك أن تلاقي أنسجة الكلمات مع بعضها البعض، في رقصها السمعي، أتاحت عذوبة الصورة الشعرية وحلاوتها عبر النظر، كون الشاعر أتى بقصيدة فجر معانيها ولغتها وحلاوة كلماتها النظر، يقول الشاعر أَبو تمام:
عَطَفُوا الخُدوُدَ على البُدُورِ ووَكَّلُوا …. ظُلَمَ السُّتُورِ بِنُورِ حُورٍ نُهَّدِ 2″.
بيت حسن حلو الكلام، من أوصاف الغزل المنظور، في مضمون الصورة الشعرية، وخاصة في وحدة التناغم الإيقاعي. والشاعر عبدالكريم كاصد لم يبتعد كثيرا في الخلق الوجداني المهيمن في وصفه الناعم عندما لامس تشابه الطير وقربه إلى الملاك، وحاله يطير راقصاً على أبواب “الجنة” مشبها سُكيْنة به وهو تمثيل أَليق بالفتاة، والتي تشبه أيضاً حبات الطلع في نعومتها ولونها الابيض اللامع في حسنه، هو وصف بليغ المعنى مؤثرٌ بإحساسه الصادق الذي ينشر براءته على ما حوله، مقروناً بالجمال الإلهي الذي لا تشوبه شائبة، وقد وفق الشاعر هنا في استعارته اللائقة الناجحة بما استعيرت له، كون الطير يمثل القدسية الجلالية في جمالية حركته وخطاه الناعمة ووجهه الرقيق وطيرانه في متسع الفضاء، وقد اعتقدت كثير من الشعوب عبر التاريخ أن الطير هو الملاك وهو رسول الغيب إلى البشرية، وتشبيه الفتاة بالطير هي رقة كمالية لصالح جمال المرأة، كون الطير مفتوح على الجنة ولهذ نذهب إلى قول: ” الاستعارة لا تستعمل إلا فيما يليق بالمعاني، ولا تكون المعاني به متضادة متنافية، ولهذا حدود إذا خرجت عنها صارت إلى الخطإ والفساد 3 “
وأراكِ سكينة
بالشعر المقصوص وثوب العرس
يأخذنا الشاعر إلى أبعد تجليات الصورة الشعرية في بنيوية القصيدة العاطفية، هو ارتقاءٌ حَسِنٌ بالشعر يشدو معه القارئ في غنائية الشاعر، نجده أي الشاعر يأخذنا إلى الملاحم الشعرية العاطفية عند الشعراء : أمرؤ القيس.. النابغة الذبياني ..قيس بن الملوح.. عنترة بن شداد، وغيرهم.
تفوحُ بيوتُ الطين
بالماء المرشوش ورائحة الاهواز
يتناسب منطق الشاعر مع بيئته تناسبا تحليلياً عبر معطيات التكوين الاجتماعي، الذي يعتمد على عناصر البيئة التي تجمعه مع سكينة، مشاهداً عن كثب وهو ينقل صورة الطين تفوح القصيدة بالماء المرشوش، والمضي بها الى التلاقي مابين شاعريته والاصغاء مشدوهاً ” للخفين ” تستهويه الخطى الناعمة التي تسري بعطر المكان، وحلاوة نقل قدميها الراقصتين في مشيتها أمامه، وقد تأنق وصف الكلام الرخيم الخفي بمناغاة الشاعر بما ينقي المعنى ويليق بجمالية مشية سكينة، والشاعر يرجف خياله شوقاً وإعجاباً حتى زاد القارئ اهتماما بالقصيدة وخفيها، ومعانيها اللطيفة في تأثيرها السمعي الخفيف عليه، وهكذا يصور لنا أدق الرعشات الجسدية التي تكون البصيرة الانثوية في شخصية سكينه، وسكينة الممهورة بروعة الحسن تبكي جالسة تحت شجيرة قلب الشاعر.
قفا نبك
قفا نبك من منزلٍ لحبيبٍ
عفته الرياح
وطافت بأرجائه الموحشات الظباءْ
كأنّيَ يومَ الرحيل لدى شجر الحيّ ناقفُ حنظلْ
يقول صحابي: “تجمّلْ”
وأنّى!
ودمعي شفائي
وهذي الديار أنيسي
ويا طالما فاض دمعي
وسال على النحر
سال على محمل السيف
إثر المهاتين: أمّ الرباب وأمّ الحويرث
منْ لي بملهايَ عند الغدير ضحىً؟
يومَ أولمتُ راحلتي للعذارى
فيا عجباً..! كيف أقبلن يحملن عنّي متاعي
ورحلي..!
ويوماً دخلتُ به الخدر
– خدر عنيزةَ –
قالت: ” لك الويل”
قلت: وقد مال هودجها وأدّنى الرحل
سيري وأرخي الزمام
ولا تبعديني من مُجتناك فمثلك حبلى طرقتُ
ومثلك كم مرضعٍ جئتُ
ريّانة الخصر
لا يخفى على المطلع أن قصيدة ” قِفَا نَبْكِ ” هي واحدة من أهم المعلقات الشعرية الخالدة، للشاعر العربي الخالد امرئ القيس بن حُجر الكِنديّ، ” كان جُنْدُج المعروف بلقبه: امرئ القيس أصغرَ ابناء حُُجر بن الحارث الملك على بني أسد، فنشأ في نجد أميراً ثم ألِفَ التنقل مع نفر من أصحابه وأترابه في أحياء العرب للهو والصيد. ويذكرونَ أن أباه طرده لأنه كان يقول الشعر ولأنه كان ميالاً إلى القَصْف والفسق. 4″ وقد أشار الشاعر إلى أن قصيدته هذي هي: ” محاولة لإعادة كتابة معلّقة امرئ القيس بأسلوب آخر 5 ” أشير هنا إلى أن بناء نص شعري حداثوي جديد، يستدعي نص شعري قديم كان قد بُنيَ عمودياً، بين شاعر وشاعر آخر، بأسلوب مختلف هو ليس بالجديد، فقد توارثه الأدباء عبر الأزمنة الشعرية من بدئها إلى يومنا هذا: فقد ذاع التشابه بين امرئ القيس.. وطَرَفة بن العبد البكري، قال العلامة الكبير بشر بن يحيى من تميم: ” ومن الناس من يبتعد ذهنه إلا عن مثل امرئ القيس وطَرَفة حين لم يختلفا إلا في القافية، فقال أحدهما: “وتجمَّل”. وقال الآخر “وتجلَّد”. 6″ والمقصود هنا هو معالجة النص الشعري عبر منظور مختلف يعتمد تطوير الصورة الشعرية، والاتيان بالجديد الأفضل والأبلغ من صياغة المعاني وأستقصاء فني فيه حتى يصل لِمّا هو أفضل، مع تأكيد وإتضاح التوازن بين الشاعرين، ولكن هذا لاينطبق على كل من رام الوصول إلى هذا المبتغى، بالعكس فهناك من شوه الأصل وسخفه، والوضوح الذي يدلنا إلى هذا المعنى نجده في الجزء الاول والثاني من كتاب: “الموازنة بين أبي تمام والبحتري” لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي. وإذا جلسنا منصتين لعملاقين في الموازنة الشعرية نقرأ التلاقي والأختلاف في البيتين التاليين:
قال أَبو تمام:
فكادَ بأَنْ يُرَى لِلشَّرقِ شَرْقاً وَكادَ بأَن يُرَى لِلغْربِ غَرْبَا
فقال البحتري:
فأَكُون طَوْراً مَشْرِقاً لِلمَشْرِقِ الأقْصى وَطَوْراً مَغْرِباً لِلمَغْرِب
أنظر التلاقي في ما يستوفي استقصاء المعنى، الذي تعدى أفق التكثير والتشابه والتطابق، ولكن ليس هذا مأخوذ من هذا، أي المسروق أو التقليد، كلاهما وفق في التأمل وسعة الخيال، ومناجاة تحتمل الكثير من التحليل عند الشاعرين، ولي أن أقول أن البحتري كان موفقا أكثر في صورته الشعرية من أبي تمام، لأن الصورة عند الأول تقريرية مباشرة لأنه لم يأت بالبلاغي الفني والمعرفي الجديد. منذ الأزل والبشر يرى في “للشرق شرقاً” و “للغرب غرباً” وقد استخدم الحال في مستهل البيت الشعري ” كاد ” والنفس الشعري هنا ضعيف جداً، كون البيت إنشائياً تقريرياً صرفاً، بينما نجده عند البحتري قد خرج عن التقرير ولامس الشعر في المعنى التخيلي التحليلي، مستفيداً من صاحبه بابتعاد بيته الشعري عن شاعريته، والأنوية هنا عند البحتري بالذات ليست فجة كما عند البعض من الشعراء، “فأكون” ن .. أي أنا.. انظر كيف لامست الصورة بدقة فنية واشتركت في صناعة المعنى اشتراكا موفقاً، بملاقحة “طوْرا ” والمفردة فيها اختيار موفق وجذاب، كونها تتمتع بحس موسيقي تجانسي تفيد رقة ولطافة، وجزالة في المعنى، جعلت من البيت في شقّيهِ لامعاً في فنيته، وخاصة إضافة كلمة “الأقصى” وهي تحديد مكاني للصورة، بينما ترك أبو تمام الصورة ضيقة ليس فيها تلك الحلاوة التي عرفناها عنده. إذن تدلنا هذا التقدمة إلى أن إعادة كتابة نص شعري ليس بالجديد، خاصة إذا كان التلاقي بين شاعرين كبيرين مثل امرئ القيس وعبدالكريم كاصد بزمنين مختلفين. يشتركان في الإبداع بصناعة ناجحة وموفقة في جزالة النص وحلاوته، والإعادة هنا في قصيدة ” قفا نبكِ ” مختلفة لها أبعاد كثيرة تميزها عن تلك: في الفكر، والتحليل، والبناء، والمضمون، والتأمل، والزمان الرومانسي زمن امرئ القيس، والزمان الصناعي الألكتروني والتحزبي السياسي زمن كاصد، وعلاقة الشاعر كاصد بالتراث واعتماد مخزونه الفكري والفني الكبير.
كل هذه المتغيرات الفكرية وعناصرها ارتبطت ارتباطا جدلياً في الحداثة ومؤثرات العصر على العقل الإبداعي. إذ من الجلي أن العقل زاد علماً ومعرفة وتطوراً على حساب رعش الروح الصوفي والاسطوري الرومانسي الخالص. لاشك أن معلقة امرئ القيس رائعة في متناولاتها للصورة الغنائية الحالمة، وجرس كلماتها، ومعانيها المؤثرة بحزنها الشفيف، ولوعة ندائها الروحي، وبلاغة مضامينها الداخلية. ولكن أيضا نحن أمام ” قفا نبكِ ” أخرى مميزة ببنائها الجديد ببناءيها الداخلي والخارجي، بصور تستدعي الماضي في إيقاع نصوص هذا الزمن.
القصيدة “قفا نبكِ” هي عنوان المجموعة الشعرية، الطبعة الأولى 2002 عن دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع. وقد توزعت هذه المجموعة بين قصائد قصيرة واخرى طويلة، تناولت شخصيات تاريخية تنوعت بين ملوك وأدباء وعلماء وقادة، ونصوص أخرى اختلفت في متناولاتها، أما النص الذي بين أيدينا، فهو نص طويل يعيد كتابة المعلقة، كما عبر عن ذلك الشاعر كاصد، بأسلوب آخر، فقد اهتم الشاعر بالبناء المحكم، وتباين اللفظ الذي يؤلف تطابق المعنى في المقومات الذاتية للنص، والعناية بخاصية الصفات التي تطابقت بين القصيدتين فأحكمت تفاضل المعاني، وليس في تكوين نسخٍ شائخة، لأن الشاعر هنا إذا لم يوفق في إحكام المضمون، يكون قد أخرجه من البيان، وهذا فساد للنص، ولكن الشاعر كاصد أجدر في التأمل الذي بنيت على أساسه قصيدة امرئ القيس، بقياس هذه المعالجة في هذا البيت ” قفا نبك من منزل لحبيب.. عفته الرياح “، في ثبوت هذا الأصل ابتدأ المعنى يأخذ سريانه الشعري إلى السمع التحليلي، وهو الترتيب في أسلوب معلوم يجعل من إحكام الشاعرية من حيث تصاعد أنغامها مبنية على تفاعل مبتدأ جلالية المعنى، والحصول على صور ناجحة عبر تلاحق البناء التفاعلي، عذبٌ وسائغٌ في إخيولة توازن زمانية تتفق في تلاقٍ للرؤيا المجسدة لهرمونية الصورة، أما الأختلاف في طبيعة ولادة النصين ونضج الشهوة المكانية في التشكيلين فهو تابع لطبيعة فلسفة وموهبة وزمنية الشاعرين، وتنوع وسعة تفاعلات النضوج الذاتي في الخيال الإبداعي. ” وفي ثبوت هذا الأصل ما تَعْلم به أن المعنى الذي له كانت هذه الكلم بيتَ شعرٍ أو فصلَ خطابٍ، هو ترتيبها على طريقة معلومة، وحصولها على صورة من التأليف مخصوصة. وهذا الحُكمُ، أعني الاختصاص في الترتيب، يقع في الألفاظ مرتَّباً على المعاني المرتَّبَة في النفس، المنتظمة فيها على قضيّة العقل. ولا يتّصوّر في الألفاظ وُجُبُ تقديمٍ وتأخير، وتخصّصٍ في ترتيب وتنزيل، وعلى ذلك وضعت المراتب والمنازل في الجمل المركبَّة، وأقسام الكلام المدوَّنة، فقيل: من حق هذا أن يسبق ذلك، ومن حق ما ههنا أن يقع هناك 6″. على هذا فإنك تجد نصاً مقبولاً إذا تشكّلَ على أساس حسن الملاءمة في توازن بنائه وسلامة معناه، مما يتبين للمحصل هو إن الاشتراك في التأمل كما ينبغي أن يفاضل الصور الشعرية بين شاعرين كل منهما هو جزء من زمن مختلف في كل شئ، يؤدي إلى اختلاف حتمي، لكن الطاقة الفنية التوصيلية عند الشاعر عبدالكريم كاصد هي سبب الاستدعاء في مؤثرات التباين والتجانس بفارق الأسلوب بين الشاعرين، مع اختلاف البناء الخارجي وهو اختلاف منهجي في طبيعة التطور الزمكاني، لأنه يخضع لفنية تقطيع وموسقة الإيقاع الظاهر في نهاية البيت الشعري في قديمه “القافية: وفي الحداثة الخروج عن ذلك المألوف القانوني الصارم، ولننظر هنا في هذا التجلي المهيمن في تماسكة النغمي الداخلي نقرأ:
وطافت بأرجائه الموحشات الظباء
نقول في هذا كلام مستقيم، يعني سائغ اللفظ، سهل التوصيل إلى الآخر المتلقي، وهذا رقي التصوير الفني في بناء الصورة الشعرية. ولكن هل كل القصائد عظيمة عند كل شاعر؟ بالتأكيد لا، لأنه لايوجد شاعر عظيم بل توجد قصيدة عظيمة. وكمية العظمة في القصيدة الواحدة أيضا نسبية، وفي قصيدة قفا نبكِ 2 نأخذ هذا المثال:
كأني يومَ الرحيل لدى شجر الحيّ ناقف حنظل
كأني يوم الرحيل.. مبتدأ الصورة الشعرية حسنة ورشيقة ومشتركة مع صاحبتها، أي القصيدة القديمة، في حلاوة الإحساس البنيوي، الذي يتداعى في نغميته التاريخية ليتشكل عبر زمنين في بناء شعري خلوب رائع، فيحدث شجناً عاطفيا مؤثراً بفعل الرحيل. ومع ذلك فإن الخيال المتعلق بالرحيل ظل صامتا في وعيهه الداخلي الذي يبوح خلجات الروح في سرحان لا إحساس مركز فيه، عند الشاعرولا له القدرة أن يفوه به، وبإحساس غير مركز أصبح الماضي هو قلق تأثر الذات، وهذا يتضح في اللاوعي العقلي في “ناقف حنظل” وهذا التجانس العاطفي ينسحب على اللغة الصامتة في المشتركات المتبادلة بين الوحدة والتأمل وبين التداعي النفسي للماضي، فقد أصبح الرحيل حالة مُطْلَقينْ ضدَّين تنازعا في نظام خارج عن الوعي الأختياري، وفي نفس الوقت يشكل هذا اللاوعي تعبيرا عن حنين عميق يتآلف به الشاعر حالة إنسانية مطلقة، مع أن الشاعر لا يرضى بالبديل الذي سوف يوسم بالوحدة. والسؤال هنا لماذا اختار الشاعر هذا الطريق الضعيف؟ لإشباع نظره وعاطفته في سلوك هو بالأساس غير إنساني، وعودة إلى الرابط الفني أستطيع أن أقول إن هذه الصورة تحمل في طياتها بلاغة البصر المعلن في فنيته على فضاء مفتوح خياله، عبر المشاهدة الحزينة في موسيقى البيت الطربي الحزين، وإن اجتهد التحليل النقدي بالتزامه الاخلاقي أمام الشعراء على السواء، لوفقنا أكثر في صناعة نقدية ناجحة مرضية. أما ما يأخذنا إليه الاقتباس المقدس في الصور التالية في أوزانها المتلاحقة بأيقاع صارم البناء نجد:
يقول صحابي: “تجمّلْ”
ودمعي شفائي
وهذي الديار أنيسي
ويا طالما فاض دمعي
وسال على النحر
نجد الشاعر كاصد في معلقته هذه وعبر هذا المبتغى الوجداني أن يجعل من هذه اللقاءات الحالمة مابين الشاعر والصورة المختلفة في المكان: تشكل بلاغة المحور الدلالي الوصفي من جوانية نبض الألفاظ التي تأخذنا إلى الموازنة والمشابهة والتلاقي المنحاز إلى التصويرية، لأن الشاعر هنا يريد أن ينقل إحساسه الصادق المبثوث والمهيمن بشكل عام في نبض قصيدته من مضمون النص التناغمي الغنائي عبر مشتركاته مع “قفا نبكِ” الأصل. ونأخذ هذا الرأي من الشاعر نفسه يقول لنا معلقا على قصيدته: “لم أفكر بأبتكار أو محاكاة إطلاقا، كانت علاقتي أقرب إلى محبة الصوفيّ الساعي بقلبه ووارده منها إلى المعرفة 7” فنلتقيه معترفا بوجدانية ثرية إنه لم يبتكر إنما هو التحقيق للقلب وابتعاده عن المعرفة على الاقل وانحيازه إلى الفنية، وبهذا نجده ينقلنا بتداعياته المركزة فيجمع خيوط المعاني وتفاعلها المنطقي من الماضي الرومانسي البعيد إلى الحاضر الصناعي، وحاله واقفا أمام “ابنة عمه فاطمة.. عنيزة” بدلا من امرئ القيس. وفي هذه القصيدة مذاق آخر مختلف في تلاقحه الهرموني:
أفاطمُ مهلا!
أقليّ التدلّل..
إن شئتِ هجري
فلا تعجلي
وإن ساء منّيَ طبع
فهذي ثيابي مشفوعةً بثيابك لم تنسلِ
أغرك منّيَ أنّي القتيل
وأنّك مهما..
المعروف عن امرئ القيس.. إنه عاش متمرداً على أهله وعشيرته بني أسد، طرده أبوه من ديوانه لقوله الشعر، مع أن العرب يفتخرون إذا خرج من هذه القبيلة أو تلك شاعر ما، حتى إنهم يقيمون له الأفراح وينحرون له الأضاحي، كونه يفاخر بقبيلته أمام أمجاد القبائل الاخرى، أما موضوع معلقة امرئ القيس فهو عندما: “سمع أن ابنة عمه فاطمة (عُنيزة) قد ذهبت مع صواحبَ لها إلى غدير في دارة جُلْجُل لِيَبْتَرِدْنَ فلَحِقَ بهنّ فأدركهن في الماء. فجمع ثيابهن ثم قال لهن: لن أعْطِيَ إحداكن ثيابها إلا إذا خرجت هي عارية وأخذتها مني. وأمسى العذارى وخِفْنَ البرد والتأخر عن أهلهن فبدأن يخرجن واحدةً واحدةً ويأخذن ثيابهن. وَبقيَتْ عنيزة مترددة، ثم أدركت أن امرأ القيس لن يَرْجع عن عزمه فخرجت إليه وأخذت ثيابها منه. 8”
فاطمة واسم التَدْلّلَ لها فاطمُ، وفاطمة أسم فردي مثل كثير من الاسماء الغير مركبة كا “شجرة الدر”، والشاعر الخالد أبو الطيب المتنبي له اخت اسمها “نجلاء”.. لكن المتنبي يدللها بلاغياً فيسميها “فعلاء” حبا باللغة وبجلالية أخته، وأفاطمُ.. لفظ دلال رقيق كرقة شعره، وحواره للأسم هتاف نغمي، وأفاطم أسم بلاغي ندائي ودلالي لقصد ما قد أستخدمه الشاعر لشفافية سماعه وموسيقاه الهادئة ولفظته الخفيفة وحلاوته على اللسان، هي رؤى شاعر يتأمل اختصار المسافة بينه وبين المنال، وهو صادق تماما في طبيعة عواطفه الذاتية، فهو راض كما تهواه من جوانية نظرتها، لأنه يرى فيها بعداً جمالياً ساحراً يلهمه العشق والشعر معاً، في فضاءاته المرسلة بأجود الكلام فيختار أعذبه، والملامسة هنا عند كريم “قفا نبكِ” قصيدة تأخذ المعنى فقط، من غير البناء العمودي المتعارف عليه، والذي تميزت به تلك الفترة، وإن تشابهت بعض الكلمات أو الجمل لا بأس، لأن هذا التشابه ضروري لإيصال المعنى اللفظي إلى القارئ، كونه يؤدي إلى عملية التلاقح الفني بين النصين ليكمل وحدة الموضوع في شرعنة إستقلالية النص لكل منهما على حده، كما في شعوره بالندم على فعلته التي لم يقدم عليها عربي من قبله، “ولكن هو جنون الشاعر الذي أؤمن به إيمانا مطلقا”: فقال لها: “إن شئت هجري.. فلا تعجلي” طلب شفاف ورقيق كرقة هذه الصور الشعرية، فهو منحاز للاعتراف بالخطأ بقوله: ” وإن ساء مني طبع” إذن نزعةَ الخوف تلاحقه فطلب الاعتذار وتأجيل جفائها، ولي الحق أن أقول أن الشاعر عبدالكريم كاصد عندما وازن قصيدته “قفا نبك” بأصلها الأول لامرئ القيس، إنما عبر عن كونه ذوّاقة شعر وجمال ذي مستوى رفيع، وإعجاب كاصد بهذه القصيدة، بأسلوبها الطارف الذي لم يتناوله الشعر على الغالب عند غيره من شعراء عصره، ونزعتها التأملية الرومانسية في علانية الوجد الصادق، وكريم نظم هذه القصيدة في جمل أقل ما نقول فيها: انها مميزة بتلقائيتها وطاقتها الانعاشية، وغير ذلك من ظواهر صرفية ونحوية ودلالية، وهي تنهل الصور المموسقة في تناغم الجمل الشعرية كسمو حبات المطر في صفوة النسيم، منسابة إلى النفس تنجلي بحوارية مريحة منعشة كما في هذه الابيات المتلاقحة من بعضها البعض في نغمية سارحة في شجوها:
جيدك، جيد المهاة، هو الحَلْيُ دون حُلِيّ
إذا ما برزتِ
وشعرك عذق تدلّى
أثيثٌ
غدائرُهُ السود تتلعُ
مَثنىً ومرُسلْ
وخصرك يا للطيف الجديل
وساقك يا للنخيل المذلّلْ
وتعطين رخص بنانُكِ
مثل الأساريع
أبيض
أنتِ المنارة يوقدها راهب في الظلام
تُضيئين عند العشيّ
وعند الضحى
تمتاز هذه المقاطع على قدرة عالية على الايحاء، بانطباعات مفتوحة على النظم التقنية، وأعني هنا تقنية الاقتباس من مصدرها، وجعلها مركزة على نحو ثري صممه الذهن اللماح الذكي، في ملامسة عاطفية تكابدها الروح ويقاسيها الوجد. وهذه الصور المتلاحقة الأطياف في نغميتها جعلت الشاعر ميالا للتغزل وهو يراها في خياله عارية فأهابه روع حسنها، أما سر النفس وما توحيه من إنفعالات عبر النظر المحتار في ما يرى ويشعر، والكشف عن هيامه الحاضر الملغى في: “وخصرك يا للطيف الجديل”، فبينما هو يشعر بغضب حبيبته وإنكسارها، تتنازعه رغبة الصفح عنه والإبقاء على حبها له، الذي كان مساحة أجمل أكوان النور والرؤى، فهي مصدر إلهامه الشعري ووحي تَقلّدهُ ليس ككل الشعراء في: “أنتِ المنارة يوقدها راهب في الظلام” هي لحظة استحضار للضياء إلى الظلمة بنور الحبيبة بتوظيف ذكي للاستعارة بشخص “الراهب” مما أدى إلى سلطنة النبوغ الشعري للتحسس النفسي، من هيام وشرود وإنفعالات وتأثر على طول زمانه المنتج للفنية التي تلازمه، وتتسع في ملاحقته المركزة لمسرحة النظر في هذا التشكيل الدلالي: “تُضيئين عند العشيّ.. وعند الضحى” ويستمر ضياء الحبيبة طاغياً عبر أوقاته الزمانية منذ بدء الليل الموسوم بـ “العشيّ” حتى الضحى، مع أن الشاعر يستمر رافضاً متمرداً على مجتمعه المهشم، وثورته التي لا تكل ولا تنطفئ ضد طغيان العادات والتقاليد التي تقيد حرية المبدع وإنتاجه الفكري، وتأكيداً لثورة الشاعر ونفوره من التخلف نجده يصرخ بقوة فاعلة في تجانس آخر: ” كم من نصيحٍ رددتُ وكم عاذلٍ لجّ.. صحتُ وقد أطبق الليلُ كالموج من كلّ صوبٍ.. وأرخى سدول الهموم عليّ.. وناء ” إذن فهذه الصور شاهد حق على ثورة الشاعر ورفضه للـ “النصيح ” وهو المرسال الذي يأتي للشاعر لمفاوضته على أن يترك الشعر والتمرد، وأيضا رفضه للـ “العاذل”، فكلاهما يشكلان الضد والعدو بآن لحرية الشاعر ومكونه الإبداعي الذي أرخ زمنه للأزمنة الأخرى، وإلا فالزمن لا يكشف عن شئ، إذا لم يكن الشعر الوحيد الذي عبر عن تلك التحولات المغايرة من تطور فكري وعلمي وفني في مجتمعه.
جنود
مطر ٌتراجعَ
بِركْةٌ في الروح موحلةٌ
وجندٌ يهبطون
توقّفوا في البرْدِ
كانوا متعبين
يزرّرون معاطفاً بليتْ ويرتجفون
جنْدٌ تائهون
توقّفوا في البرد
جندٌ يسألون عن الطريق
ويهبطون
ويهبطون
ويهبطون