الرئيسية / قصة قصيرة / عين العدم

عين العدم

في الميناء .

إلتقيت بإبن جارنا ” بن طاهر ” عثمان .

طردته زوجة أبيه.

إمرأة خشنة الطبع ، غليظة الحس و سليطة اللسان .عقرب في صورة إنسان . زوبعة رمل إذا ما هاجت . صوت رعد إذا مادوت . وويل لجارة إذا ماتهورت ودخلت في شجار مع فاطمة المسمومة .هكذا يلقبونها .سيل جارف ينظف زقاق الحي من النفايات والحجارة ولن … لن يهدء بال فاطمة إلابرؤية دمها أو دم الغريم . وقد يمتد الخصام ثلاثة أيام أو مايزيد ، إلى أن يستسلم الطرف الثاني . أما العقرب لامعنى للإستسلام في نفسها .

ربما هذه المرأة لاتكتمل سعادتها إلا بتوثر وتمزقات الأعصاب … فوران الغضب ورؤية الدم . جارات الحي تخلين عن الدخول في لعبتها بعد أن تأكدن أن المرأة مريضة بشكل يدعو إلى الشفقة . ومع إمتناع الجارات عن الشجار الساخن معها ، حولت فاطمة منزلها إلى ساحة حرب . ووجهت فوهة مدافعها في وجه عثمان و زوجها بن طاهر : أهدء رجل في العالم .

في طبعه يشبه كلبنا بقشيش . صبور وإن خدش الألم العظم . المسكين لايعوي .

يخرج صباحا قبل الخيوط الألى لأشعة الشمس ، ولايعود إلا عندما يشعر بنوم فاطمة …وهل يسلم الشر المستطير نفسه لسلطان نوم ؟ بن طاهرلايغادر بيته إلاإذا أشارت إليه العقرب بذلك .لايتكلم إذاماكانت المبحرة في الكلام . ينصت و يحرك رأسه بالموافقة أو بالنفي . لايئن ولايحتج . إنه هناك شيء من أشياء المنزل الجامدة .

لهذا السبب ، لاأصدقاء له ولاأحد يجرؤ على الإقتراب من ظله .

قيل أنها كانت صديقة لأم عثمان وتقربها من حيت الدم ، وقيل أنها وراء رحيلها إلى العالم الثاني بوضعها قطرات من السم في الطعام . وتزوجت بن طاهر التي حولته بنفس شعودتها إلى خاتم في أصبعها وعندما دخلت إلى حياته طردته من سلطته القديمة : السحر الأسود .

وقيل أنها كانت واقعة مابين الحب العنيف والشهوة الرهيبة وأقسمت الإستيلاء على قامته .

الغريب في الأمر أن فاطمة المسمومة عندما تجلس إلى أمي تتحول إلى قطة وديعة . تهدء وتلين. وربما المرأة الوحيدة في الحي التي لم تدخل في شجار معها . بل عندما تغضب فاطمة ويكون سبب غضبها الملعون عبدول ، تغلق أمي الباب وتتركها تنبح وتنبح إلى أن يجف حلقها . بعد ذلك تغلق هي الأخرى الباب وتمر ليلة أمي في هدوء .

والأغرب :

أمي المرأة الوحيدة التي ترافق فاطمة إلى السوق الأسبوعي وأحيانا إلى حمام الطوب .

ولا أدري مالذي تملكه أمي يجعل من المرأة لطيفة وطيبة ؟ وتفسر أمي سر هذه العلاقة الغريبة بطريقتها الخاصة :

ـ الإنسان كالقطط ، القطط بطبعها متوحشة ، لأنها خرجت من أنف النمور… إنها عطسته . كلما إقترب منها وبادلها العشق والعطف، تتحول إلى كائنات وديعة . كل…كل الكائنات الحية تحتاج إلى هذه الإلتفاتة الوديعة هذه الطيبوبة المشبعة بالدفء والحنان.غير أن هناك من الكائنات إذا ماعاملتها بهذه الوداعة تعتقد أنك تخافها فتنقض عليك وتترك أثار مخالبها في روحك وجسدك . طبعا القلب عين ميزانك . الله خلق الجميل وخلق معه النثن . حتي ملكة الجمال معرض جسدها لتحلل ، وعندما يتحلل تفوح الروائح الكريهة . أين إختفى جمالها الذي كان يسكر النفوس ؟ الكل ريح .

وحده جمال الروح ، الكلم والفعل : الأبقى .

فعلا

بعض القطط لاأحد منا ولاأبي بإمكانه الإقتراب منها إلا أمي .

وأتسأل :

كيف يعقل أن يتحكم هذا القزم النحيف في رجل عملاق ، ينبغي أن يتقوس لكي يدخل من الباب إلى بيته ؟ صفعة واحدة من كفه التي تشبه الرفش ويعجل بروح فاطمة إلى العالم الأخر . ومع ذلك فالرجل لايسمع همسا لصوته أمام حضورها . وأحيانا ينحني لتصفعه ، يمسد العملاق خده ويهرول كطفل إلى بيته وهو يبكي .

قال عثمان وهو يلتفت في كل الجهات تحسبا لمكروه ما :

ـ لنمشي على حس البيض . أنت ضيفي هذه الليلة وغدا تدبر أمرنفسك . إبحث لك عن سقف ، الميناء يتسع للجميع .

صهريج نفط لازال يحمل بقايا رائحته . الدخول إليه يتم عبر ثقب في سقفه وتحث الثقب بالضبط وضع عثمان كرسيا معطوب القوائم ، أصلحه وجعل منه درج سلم لصعود والنزول إلى الداخل .

ونظرا لقربه من سكة حديدية معطلة ، غطتها طفيليات أعشاب و لتواجده وسط أشياء ألقت بها إدارة الميناء . أشياء لاتصلح للإستعمال … فعلا المكان ….المكان لايثير أدنى شبهة . ويستحيل أن يتبادر إلى ذهن ما ، أن أرواح بشر تنام في صهريج قذر ملوث برائحة نفط .

فعلا

إنه المكان المثالي لنوم . رغم أن الهواء منعدم والرائحة لاتطاق .

نمت في حالة سيئة .

في الحقيقة عيوني ظلت طوال الوقت مفتوحة وإلى صباحه والسؤال :

ـ أين أجد غدا سقفي في الميناء ؟ وكيف سأراوغ في كل ليلة عيون الحراس وقد إنتشروا كالجراد في الميناء وإذا ماضبطوك كما قال عثمان فجهز دبرك . أكيد شخيري اللعين سيدلهم على مكاني . الإرث الوحيد الذي تركه لي المرحوم أبي .

كان سيدنا إبراهيم المؤدن يهلل ويسبح عندما غادرنا الصهريج .

قال عثمان :

ـ سأودعك الأن . إحذر جيدا . شرطة الميناء الأن تلحس الخضر واليابس . بشر هذا البلد لايثقنون إلا الأذن والعين .

سألته :

ـ فينْ غَادِي ؟

ـ مارشي كريو ( سوق الجملة للخضر )

ـ هل أصلح لشيء ما ؟

وهو يضحك قال :

ـ أنا لص .

قلت :

ـ أنا جـائع .

ـ هلْ ( وقام بحركة بيده اليمنى في الهواء رامزا إلى السرقة ) ـ لاتهتم نحن أبناء الوحل والهم ، تخرج أيادينا قبل رؤوسنا . تخرج وتمتد الأصابع في خفة وحذر شديد إلى جيوب القابلة ، علها تحضى بشيء ما نخرس به جوع تسعة أشهر الطويلة برودة ظلامها .

ضحكنا معا .

في الطريق …..

بسط لي عثمان الخطة بكل تفاصيلها . وحدد لي دوري في العملية ، مع التشديد على الحرص اليقظ والإنتباه الذكي . وعدم الوقوع في أدنى ميليمتر خطء . على العين أن تكون في كامل صحوها ، مفتوحة ودارسة ومتفحصة لكل حركة قبل الدخول والتنفيذ. أن تراقب كل الجهات ، شهقة كل نفس ، ظل كل صوت خشخشة . الشيء…الشيء الذي تضعه بين عينيك … وحده يدعوك وبإحتفاء كبير وسخاء مطلق … يرمش لك بإغراء أنثوي … يغازلك ويهمس لك بأعذب الألحان وجمال حرقة الوصال :

ـ هيا إسرقني من هذا المغفل .

نعم !

الشيء…الشيء وحده يدعوك لسرقته . دع الخوف جانبا ولا تتردد . وإذا ماشعرت بخطر ما ، دع كل شيء .. كل شيء في هدوء وانسحب. إبحث عن وجه ثاني وثالث ورابع…وإذا كان حظنا سيئا ، ويوم نحس لاتهتم..لاتهتم ولاتقنت..لاداعي للحزن واليأس وإلاسقطنا في لعبة التهورالقذرة. ياسيدي للغد أغنيته الجديدة .

ولاينبغي أن نحرم أنفسنا من الإستمتاع بأنغامها . فقط ينبغي أن نصبر وننتظر . جيب مغفل غدا ينتظرنا . هل تفهم ؟ مركزاً عينيه في عيني أضاف :

ـ إسمع أيها الشريك . إذا ماضبطوك لاينبغي أن تدلهم على مكان نومي : مفهوم .

قلت :

ـ نم على جنبك الأيمن وفي هدوء . فاتورة الحساب أؤديها وحدي .

وأضاف :

ـ مطلق الحرام ، العيب والخزي أن ينام الإنسان ببطن جائع . في حين العائلات الميسورة تلقي بنصف كبش إلى كلابها . نحن سنبدء بالسرقات الصغيرة ، نبدء بالفقراء مثلنا ، وفي يوم ما سنسرق الكبار . الحلاق الجيد يتعلم في رؤوس الأيتام .

( ضحكنا وأضاف )

ـ من في هذا الكون يتصف بالنزاهة ؟

قلت :

ـ لاأحد .

قال :

ـ صحيح … لاأحد …نحن سنتعلم كيف نكون ذئابا .

…………………….

لاأدري ؟؟؟

لاأدري كم من الوقت مضى على حياتي الجديدة ؟ حياة توزعت بين ليل الميناء الساهر ، الماجن ، وقضاء القيلولة في الحدائق العمومية أوالبحر . صباحات مارشي كريو التي لاتخلو من مغامرات عادة ماتنتهي بالعض والشتم ، بالضرب عندما يفضح أمرنا .

وتمر الأيام ….

تمر دون أدنى شعوربثقلها ولا بعهر لعبتها . لاأذكر من جلستنا إلا براءة وصفاء وعذوبة الضحك . الضحك النابع من عمق الأعماق السحيقة . الضحك من أجل لاشيء . الضحك الكاذب ، إلى حد الدمع ، إلى حد الإحساس بإنفجار القلب وخروجه من بين الضلوع .

فعلا

كنا في حاجة إلى مخدر ما .

لهذا السبب عندما يخرج النهار برزقه ودون تفكير خطواتنا إليه . طبعا ليس لكل نهار رزقه . أحيانا عندما نطرد من السوق ، يكون العشاء فواكه وخضر نسرقها من الشاحنات عندما تضطر للوقوف ساعة الضوء الأحمر . نتشعبط وتمتد أيادينا إلى الصناديق ونملأ أكياسنا . وتعقدت الأمور عندما أكتشف أمر سرقاتنا مع الوقوف ينزل مرافق السائق .

ومع ذلك مع تعقدها نفتح وبدافع الجوع باب رزق جديد . لاينبغي أن ننام ببطن جائع . هكذا أصبح شعار ركضنا .

عثمان سعد بمعاشرتي . وإذا ما غبت عنه ولو لرمشة عين ، يبحث عني وعندما يجدني يعاتبني . لايطيب له الأكل ويحلو السمر إلامعي .

و

وفي ليلة وبعد سرقة خفيفة ، إشترينا علب سردين . خبز ، سجائر ، ليتر من الروج الرخيص ، حبات معجون ، واشترى لنفسه علبة سلسيون وباقي الغنيمة إقتسمناه .

وبعد عاصفة من الضحك الكاذب وسرطان الخيال المعطوب الروح قال لي :

وبعد عاصفة من الضحك الكاذب وسرطان الخيال المعطوب الروح قال لي :

وصمت لحظة وبصوت الثقة والجدية قال :

ـ باخرة فرنسية رست في الميناء هل …؟

ـ نعم لقد رأيت علمها يرفرف فوق سارية … إنها أمريكية .

ـ فرنسية ، أمريكية أو سنيغالية …. أو صينية المهم أن أغير هواء وبشر هذا البلد .

ـ وهل الصين تحتاج إلى بشر ؟

ضحكنا معا وأضفت :

ـ إنها تنقل جنودا . ربما الباخرة الأمريكية متوجهة إلى مكان ما من العالم .

ـ لتضعني في أرض شاءت . المهم أن أرحل .

ـ هذه المغامرة غير مضمونة إذا ماضبطوك أولاد العاهرة ، مصيرك بطن حوت .

ـ أين نحن من هنا صديقي ؟ أنظر…إفتح عيناك جيدا … أعرف لنا القدرة على الإنسجام وخلق علاقة ود حتى مع ما يقتلنا … وما الفرق بين بطن حوت أو بطن صهريج نثن ؟ وهل هذه حياة ؟ لقد كنت أنتظر هذه الفرصة ينبغي أن نستغلها . وهذه الباخرة لن ترسو هنا إلابعد سنة أو أكثر … الوصول إلى هناك ولادة جديدة ، صدقني .

وأنا أتمدد في مكاني على الكارطون ، قلت بخبث كبير :

ـ الطريق إلى أمريكا طويل … والطريق يحتاج زاد وماء .

ـ أليس في الباخرة مطعم ومخزن للمواد الغدائية …؟ لي عيني ولي يدي .

ـ ستموت بالجوع والبرد .

وتظاهرت بالنوم . وزعق في وجهي :

ـ أنت جبان .

ـ أسي عثمان صدقني هذه مغامرة غير مضمونة .

ـ وأضاف :

ـ تخيل وأنت تتجول في شوارع وأزقة فرنسا أو أمريكا .

قلت :

ـ عثمان لقد لعب المعجون والنبيذ برأسي . سأنام ……………………..

إستيقظت على تهاليل وتسابيح سيدنا إبراهيم .

إلتفت إلى مكان عثمان . أكيد قضى بقية السمر في مكان ما .أو ربما هو الأن في طريقه إلى أرض الخبزوالأضواء ؟ في كيس بلاستيكي وضعت نفايات الأمس . وخرجت عبر التقب و كالعادة بحذر شديد .

وتسلقت الجدار السلكي ، ألقيت بجسدي إلى الطريق السيار . ومن حيت لاأدري ، رددت آية الكرسي وبخشوع عميق . لعلها تكون فاتحة خير ليومي .

نعم !

تعلمتها وحفظتها عن ظهر قلب . بالإغراء والعصا أحيانا . الإغراء : تذكرة دخول إلى سنيما أحياء الطوب. كان المرحوم أبي يؤمن أن من حفظها يكون حاملها بعيدا عن الشرين . الإنس والجن . ومن كتبها بالصمغ على طبق شربة ودون تنقيط للحروف أوهمزة. وبلل الحروف بماء المطر وشربها ، يكون من الى جانب الصحابة المبشر بهم في الجنة .

يعطيه الله الخير العميم ، صحة البدن ويجمع الله موته بإنطفاء البصرويفوز بنعم دارالبقاء دون ترهيب أوعذاب .

حفظت الآية ، وكتبت حروفها دون نقط أوهمزة وتركت ماء المطريبلل الحروف وعرضت الطبق ليراقصه ضوء القمر وكان لقائي دوما مع من لايكتمل بدربهجته إلا بحرقة دمعي .

وأنا أختم الآية :

آمين صدق الله العظيم

توقفت سيارة دجيب الخضراء . نزل مردة ، وقال بصوت غاضب :

ـ فينْ غادي ؟ وفينْ كنت ؟ زِدْ أطلعْ أشمكارْ .

في الطريق حصدت دجيب أشباح بشرية . سكارى ،عاهرات ، لصوص ، ليليون ، متشردون ، أطفال .

كان من الصعب أن يجد المرء كوة لتنفس وسط جبال الرؤوس والأيادي والأرجل والرواح الكريهة . وعندما يشتد اللغط ، يرتفع صوت الوغد اللئيم الحقير :

ـ زم فمك … إنعل دين بوك ودين أمك …عندما نصل ستجربون الجلوس على القرعة .

مرارا سألت الله في نفسي :

ـ لماذا الجياع والعراة عرضة للمزيد من البلاء ؟ ولانقطة ضوء واحدة في أفق هذا القاع المظلم .

مظلم .

مظلم .

مظلم .

فهل من مزيد ياالله ؟

هلْ ؟

هلْ تسمعْ ؟

مرحبا إذن بالزلازل والعواصف والجفاف و… مرحبا وهل الذي تعود على غضبك يهاب الجوع وصقيع العراء ؟ قضينا النهار بالجوع في قبو رطب قذر . عندما حل المساء أطلق على البعض منا .يقال أن حرية الإنسان هنا تعادل مافي جيب عائلة المسجون . يطلق سراحه وإن كانت جريمته القتل . وقد يضعون في مكانه إنسان بريء من دم المقتول . لكن مع التعذيب الوحشي . يجبرونه على توقيع محضر يقر على جريمة لم يقترف تفاصيلها ولو في كابوس نوم .أما شهود الزور فلا تهتم ..هم في حالة إستعداد تام لتقديم الخدمة متى تطلب الأمر ذلك ومع القسم الشديد . مع القسم واليد اليسرى مرفوعة في الهواء واليمنى على الكتاب المقدس .

طبعا !

الكل يخضع إلى لعبة : كُولْ أُوَكَّلْ أَسِي الْحَاجْ .

ويؤكدون :

وضع الله البطن بعيدا عن الرأس لسبب ما ؟ زمن الأنبياء إنتهى … أنا أسي المتخلق جائع ولي أولاد ولاعمل لي . أكيد ربك سينظربعين الرحمة إلى وضعيتي . هل تسمع … أنا جائع ؟ ونحن

نحن من لاأحد ســأل عنا وحــرك مافي جيبه، نقلنا في سيــارة شرطة تابــعة لكوميسارية ” المعاريف ” ومع الدخول من الباب الكبير المفتوح على ساحة بلاطها من الإسمنت ، وعبر باب صغيريفضي إلى بيوتات تحت الأرض نمر واحدا واحدا . وبلهجة جافة أمرنا شرطي يحمل سلسلة مفاتيح كثيرة ، خلع السيور والأحزمة .

كان قدرنا قبر دون نافذة لايتسع لعددنا ، وقال أحدنا وهو ممدد على قطع من الكارطون ، ربما حرك مافي جيبه أوعرض إسته ومنحوه الكارطون .

هنا كل شيء إلا وله ثمنه .

قال :

ـ العدد سيتضاعف ، جهزوا مؤخراتكم للإلتحام بأشيائكم .

بعد مرور شهر وثلاثة أيام أطلق سراحي .

لاأدري ما الذي شد أقدامي الحافية وسيرها إلى شاطيء ” الرمال الذهبية ” هكذا إسمه .

في الطريق كانت العيون إلي تنظر بإستغراب ودهشة . طبعا أبدو كفأر خارج من جحر تحت كومة أزبال .

لايهمني نقيق البشر .

غدا سأموت .

ولتدهب كل الوصايا إلى الجحيم .

بطني جائع ولاوقت لي لتفكير في الذي يجب والذي لايجب .

الذي يجب هو أن أخلق مكاني تحت سقف السماء .

وإلا سأقضي بقية عمري كفأربين الحفر . سجين وهم قط لاوجود له إلا في دهني .

اللسان لا عظم فيه ، لهذا السبب لذته في الكلام لاضفاف له… لو وجد هذا العظم لأدماه .

إستلقيت على الرمل الذهبي . فعلا هذا الرمل يختلف عن رمل بحرنا …لارمل غير الصخور الشائكة الحادة .

وتركت سخونته تضمد برودة المخفر .

إلتفت خلفي … على الهضبة فيلات صفـفت في شكل بديع ، يظللــها خضرة الحدائق ، تمتزج بلون المــسابح الزرقاء المنسدلة في نعومة ووحدة . حولها يحوم حمام وعصافير .

ترى كيف يفــكر سكان هذه الفيلات ؟ هل تــعرف بطونهم الــجوع كجوعي الدائم ؟ هل أطــفالهم يتعرضون للإغتصاب ؟ أكيد هؤلاء أشد إيمان بالله وقد خلقوا معه حالة سلم ،لايشتمونه صباح مساء ، في النوم واليقظة، ليسوا كأبي كلما إحتدمت عقارب الرأس وتباينت مشاعره المطعونة بمهماز عين الحال.. ثم اختلطت وتداخلت، شتمه .

رأيت صلاح المرء يصلح أهله ** و يعديهم داء الفساد إذا فســـــــد

يعظم في الدنيا بفضل صلاحه ** ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد

أكيد الله معهم… معهم ويقف إلى جانبهم و يضاعف خيراتهم .

الفرق بيني وبين سكان هذه الفيلات . هم يسلمون وجوههم شطر القبلة ويناجون ربهم ، وينامون ببطن مملوء وفي هدوء . طبعا غدهم مضمون خبزه … أما أنا فقد مات في نفسي .

قساوة الحياة وعنفها وجوعي أفسدت علاقتي به ؟ أنا فأر نثن لايصلح إلا للقنص و قبره معدة قط نثن مثلي . يناجي ربه ليسهل له خروجي من جحري .وأنا أناجيه بطريقتي لكي لاأقع في شركه . مع من سيقف الرب ؟ أنا طبعا المؤمن مصاب أليس كذلك ؟ وإن كنت البعيد عن طريقه .

نعم هو يقف إلى جانبهم .

ونحن جعلنا من الشيطان الإله البشري عين نظرنا .

فواحش ، موبقات منكرة : ضوء كل نفس .وهواء كل بيت .

وكما قال خطيب مسجد الحي سي إبراهيم : الله جميل ويحب الجمال .

نحن العفن في مطلقه .

و كيف يقيم الله في العفن ؟

ليس غريبا أن نكون عرضة للكوارث الطبيعية والمأسي والحروب .

غير بعيد من مكان إستلقائي شد نظري رجل وامرأة شقراء . تركا أشياؤهما على فوطة وتوجها نحو البحر .

دون تفكير وقفت وعلى حس البيض كما علمني عثمان صديقي اللص القديس : توكلت على الله .

وبعد أن غطسا في الماء ، جمعت كل شيء وعدوت بسرعة غير حافل بصياح وزعيق بعض السياح .

وإختفيت في الغابة التي يفصلها عن البحر طريق سيار .

وبعد مسافة طمأنتني أن لاأحد يتعقب خطواتي ، جلست في هدوء .الخوف لم يعد له مكانه في نفسي . لايهمني أي شيء . السجن …مارشي كريو…حياة ليل الميناء….

طُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزْ .

مايهمني الأن إلا لحظتي :أن أطعم هذا البطن اللعين .

وليأتي الطوفان وأهلا و سهلا بالعواصف .

بين الملابس وجدت حقيبة صغيرة : أوراق مالية أجنبية ، أوراق بلدي كل ورقة يبدو السلطان باسما وعيونه كلها وعود . أعرف جيدا أبعاد البريق . و جواز سفرفرنسي .

إسم المرأة الشقراء : جاكلين .

ربما الرجل الذي يرافقها إيرها المفقود وجدته هنا في بلدي . لاورقة تدل على هويته .

ليكن ماشاء ، ليذهبا معا إلى الجحيم .

قلت في نفسي :

ـ بهذه النقود تكفيني للعيش لمدة أسابيع . طوحت بالجواز والجراب والملابس إحتفظت بنعل مراكشي يكبرني بعض الشيء .

كانت الساعة السابعة عندما وصلت الى الحي وأنا في طريقي إلى حطتنا وبوجه عابس ، قام سي شافعي بائع السجائر بالتقسيط وحياني وقال :

ـ أَلْبَارَكَة في رَاسَكْ أوَلْدِي . إن لله وإن إليه راجعون .

لم أفهم !

أمام البراكة ، رجال جلسوا على الحصير . يخيطون ثوبا أبيض : الكفن .

قالت جارتي رابحة :

ـ خُوكْ أَمْشَى فِينْ غَادِي نَمْشِيوْ كَامْلِينْ … لهيه ( وأشارت إلى السماء ) عاينت مراسيم دفنه .

تسألت في نفسي : لماذا تنتهي حياة الإنسان بهذا الشكل البئيس ؟ أين هي أحلامه ؟ وأي أحلام كانت لأخي ؟ قضى حياته فوق حصير بشلل مطلق ، لايتكلم إلابعينيه .

وقال فقيه المقبرة وهو يلقي العطور الجافة على جثمانه الملفوف في البياض :

ـ الكل تراب والسعيد من فعل خيرا في الدنيا .

بنقود الحرام إشترينا مكانا لأخي تحت الأرض . حفرة في حجم قامته . في ظلمتها سينعم بالراحة الأبدية .

يقال أن القبر يضيق ويتسع حسب أعمال العبد في الدنيا .

أنا لص قذر .

لاراحة لي إذن .

طفل دون نعل ، شعر مشعث ، كدمات ورضوض متفرقة في جسده . ،مغبر الوجه والقميص كأنه خرج للتومن فرج خنزيرة ، جلس القرفصاء و بريشة بشعيرات قليلة ، غطسها في علبة صباغ بلون أزرق . ترك القطرات تسقط الى الداخل بعد أن ضرب مقدمة الريشة على جنبات العلبة .على صخرة صفراء بهيأة مثلث وضعت بالضبط جهة رأس الراحل كتب :

هنا يرقد (…..)

مات في يوم (…..) في شهر (…..) في (…..) رقم (…..) إن لله وإن لاراجعون .

ناوله سي الطيب جاري درهما . شكره الطفل ومضى يتعرج بين القبوروهو يقلب الدرهم بين يديه ويشمه .

ربما فرحا أو سخطا . تركه يسقط في جيبه وعيناه تبحث عن ميت جديد : خبزه رهين بموتي .

في

في ليلة دفنه أكل الجيران ، الأطفال والسكارى ، القطط والكلاب : الكسكس .

والفضل يعود إلى جاكلين .

شكرا…شكرا فرنسا .

قرء القرأن وكان الختام بدخول أخي إلى جنة الرحمان .

هذا أكيد .

قضى عمره طريح الفراش. يبول ويغوط في مكانه. كثلة لحم وعظام نائمة على حصير يفوح برائحة الموت.

لم أبك رحيله . ولن أبكي رحيل أحد في المستقبل . الكل وأنا إلى الجحيم .

أبكي حالي بدمع الصمت والنظرة الحادة إلى الأشياء وركض بشرهذا الحي المريض.وأتمايل مع أغنية شعبية يأتيني وجع أنغامها من براكة في أسفل الزقاق :

حْنَا صْحَابْ الْحَالْ

إيقُولْ ألْحَاكَمْ

مَالينا أكْلام

شوفْ اُسْكُتْ

أدْفَعْ أو زِدْ ألْقُدامْ

سْمَعْت لكَصْبَة

سَخْنُو لَبْنَادَرْ

وَرَاني بَاغِي نَتْحَيَّرْ

سي حميد طوال مراسيم تهييء الراحل . من الغسل إلى ردمه والكسكس ، كان يقف إلى جانب أمي…هل فعلا يحبها ؟ الرجل كان يتحاشى النظر إلي . هل تذكر سي حميد ليلة عريهما ؟ ربما…إنه رجل وأمي إمرأة :

وتواصل الأغنية :

وَاشْ وَاقَعْ

قُولْ أشْرِفِي قُولْ .

قلت في نفسي :

ـ أتْمَتَّعْ أسِي حميد….أبي رحل وأنت الأن سيد السرير .

أمي….الحزن أجبرها على الجلوس . يديها في الهواء ترتفع وتنحني ، تخبط على صدرها بضربات سريعة وقوية . تنتف شعرها ، تصفع وجهها ويرافق النتف والصفع : عويل وهمهمات .

أشك في هذه المسرحية .

أخي بموته أراح وإستراح .

في الثلث الأخير من الليل وبعد أن تفرق الجراد كل إلى جحره ، قلت لأمي :

ـ سأدهب الأن .

قالت بإنحنأة عين وحشرجة دمع تمتطي صوتها :

ـ إلى أين ؟

قلت وأنا أنظر إلى مكان خلوة أبي المفضلة وبرمشة عين ركضت تفاصيل حياة ومأساة هذا البيت .

ـ إلى الميناء .

إقترب مني سي حميد وقال :

ـ سأتزوج أمك على سنة الله ورسوله . عبدول ينبغي أن تعود إلى المدرسة . سأتكلف برعايتك . إنني رجل عاقر . لهذا السبب هجرتني زوجتي . سأتخد منك إبني . وســـ … ( صمت )

وبتودد همست أمي :

ـ سي حميد الله إعمرها دارْ . مايكمي مايشرب وصلاةُ في وقتها . غادي إتهلاَّ فينا بجوجْ .مايدومْ حال أوليدي أنْتَ أخويَّكْ أحمد لبقيتيوْ ليَّا مَنْ الزريعة . إيوا غْسَلْ رجْليكْ أونْعَسْ شْويَا . غَدَّ نْهَارْ خُرْ .

( إظـــــــــــــــــــــــــلام )

 

عن عبد الحق طوع

شاهد أيضاً

عيدون

“عيدون”.. الأسطورة شميسة غربي / سيدي بلعباس / الجزائر يجلس أمام مكتب عريض؛ رُصَّتْ عليه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *