عوني كرّومي 2008
نص: عزيز خيون
أهناك مرأى محظوظ خفّت أليه روح التغيير..؟! أشكُّ في أمر ذلك جازماً.. نعم صاحبي.. هناك تغيرّات هي في حقيقتها تنويعات على شكل وحجم المأساة النازلة على عراقي الآن، لكنها بزينة وتلوينات أُخر، تستكمل فصول تراجيدياً القسوة والعنف… فالتاريخ لا يمكن إلا أن يظل في تحرّكٍ دائمٍ، ليس بالصورة الدائرية كما هو وَهم المتداول والشائع، إنما بمقاييس ورؤى.. بسيناريوهات وملفّات مختلفة القدرة والتوجه. هناك تحرّك وتحريك، أفعال ونوايا وخطط، مصالح وتصالح، هناك تسليم واستلام، ضمور عنوان، وصعود عنوان، هناك أرادات لا تلبث أن تفكرّ بالنهوض إلا وتهوي ثانية. هناك تشاور وتحاور، تساوم وتهاون وجرائم وتكاتف وتكاشف، هناك تهاتف، هناك قنوات واجتماعات وفضائيات وأخبار وخطب، وجوهٌ رهن التلميع، وأخرى تنتظر التسريح، هناك تمهيد واحتيال واختلاس ونَصب، فضائح…
وأيضاً هناك سعيٌ مبارك وقرار صادق، هناك حرقة وضمير يُعاند أن يكون، إصرار وتضحية تهبُّ أن تحيا، هناك قرار لا رجعة عنه ولا تفريط.. أن يظل العراقُ، العراق…
أما ما أعنيه بالتغيير أيها الأعز، هو وضع حد قاطع لأهوال المشاهد المأساوية التي تُسمنُ الصورة البانورامية القاتمة لوطننا، وصمتي لا يزال ينشغل بي، ويندهش من تجمع لفائف حيال الصبر حول عنقي… ساهماً أغزل خيوط التحسر والحيرة، يفزعني ما يدور الآن ويحدث.. أسبرُ تحليلاتي، ويحتج تأويلي، أُطالع عناوين مشروعاتي المسرحية التي ضجرت فكرة المداولة والتأجيل، وأنجحُ أحياناً فأُسكتُ بريش التأني صوتها المعترض… أجردُ حساباتي، وأعود سابعة أُصغي لهمس التعلل فأدمن رفقة عادة يصعبُ على مزاجي اللا لون له طاقة الفكاك من حبائلها المزعجة، أن أتخذ من جهاز التلفاز خليلاً ونديماً لساعات الوقت التي أضحت تتمطى على مهلها وتطول، أتابع من خلال أزراره أحوال عراقي المخطوف… هكذا هو ديدني اليومي في الداخل كنت أم في الخارج، قريباً من عراقي المدمّى أم بعيداً،لا فرق.. أضحى هذا الجهاز المشكلة كيس ملاكمة أفرغ فيه حنقي، وحرائق جزعي، أشتّتُ حمم غضبي بالنطّ عبر فضائياته كعدّاء الحواجز، أفتش ولو عن بصيص أملٍ للأسئلة التي تهوي بمطارقها اللاهثة فوق جمجمتي، عن منفذٍ لسلامة أرضي وخلاص شعبي، عن صورة مستقبلنا القابل وسط هذا الحريق اللا يرحم لخواتيم فظاعة مهرجان التدمير لعام 2007 الذي يقف الآن مزهواً ينفخ بالنفير، يجمع أثقاله وينفذُّ آخر إنجازاته الكارثية، ليرحل في سفر الذاكرة، بعد أن حقق النجاح، إغتال الجموع الغفيرة.. أثقل كيانه الهائل السعة بأرواح العراقيين.. شيوخاً، أطفالاً، أصدقاء ومعارف، وأهلاً وآمالاً، وأحلام سنين، أباد مآثر البهجة والجمال، وترك عراقي يقف على ساقٍ واحدة، مذهولاً… أقول لا شيء جديد غير شراهة فك الموت لكل ما هو عراقي وجميل، لا شيء مختلف سوى أنك لم تأتني كما في كل مرة عبر الأثير، لم يزرني نقاؤك، تفاؤلك، تهانيك وأمانيك لي.. لنا.. للعراق في العام الجديد، لم تسمعني جرس ضحكتك التي تسقي إرادتي إكسير المقاومة والعناد، إكسير الإصرار والفرح، وتجعلني احلم بشوط آخر من النضال والجلد…
عوني… ذي سنة ثانية تمر على فقدك المر، وأشهر قليلة من وقوفي على بيتك الجديد، سكنك الأبدي، قبرك في “برلين” حين حضرتُ وثلّة من مريديك وتلامذتك من هزهم إعصار رحيلك الفاجع.. والذاكرة هي هي، لا تزال تلهج باشتعالها، تعجُ بالكثير من الأفكار والطروحات التي كُنا على البعد ننسج خيوطها الفضية لمسرحٍ بهيّ كعراقنا، نجد ونخططّ لمواسم ولقاءات مسرحية نحيي حضورها الأنيق في “برلين” التي اخترتها ميداناً لتحركك الوطني، أو في بغداد أم الدنيا وسيدة البلاد، شرط أن تتنفس بغداد نعمة الحياة ثانية، أو على أي أرضٍ عربية أخرى… تلك المشاريع والأحلام لا يزال أريجها ندياً وحقيقتها صائمة، ترفض الحادث الجلل الذي نفذ خطة غيابك، أو كأنها على موعد مؤشّر ومحدّد تطل فيه عليّ بمشيتك الطفولية الواثقة التي لم يربك عنادها العراقي كرّ السنوات، وبتلك الابتسامة العذبة الودودة التي ما عرفت الانطفاء، ما عرفت الكره والتآمر، ولا اللؤم والحقد يوماً، بل هي دائمة الإشراق والتعريف بروحك الحلوة، الوثابة للخير والمعرفة والتسامح، السباقة لأن تعدو مع خطوات أي مشروع مسرحي عراقياً كان أم عربياً وحتى عالمياً، شرط أن يتخذ من ضياء الحقيقة ومقود الحداثة مطلباً وهدفاً… هكذا هي روحك الوفية أيها الأصيل، المهم أن هذا المشروع المسرحي تصطف توجهاته الباحثة التوّاقة والمسرح الذي اخترتَ وتتلمذتَ وناضلتَ وعشقتَ ودرستَ وبنيتَ وأعطيتَ وضحيتَ وارتحلتَ وتغربتَ وتجرعت حنظل المعاناة من اجل أن تزهر تجاربه في عراقنا أو في أيّ محيطات أُخر، ليقدّم إلى عموم الجماهير الفائدة والجمال والحرية…
عوني… صاحبي يا أبن فرام كرومي نحن في عام 2008 بجنون مركباته المدوّية وأحداثه المزمجرة المتوعدة بما تبقى من جلال عراقنا، وأنت في الـ هناك، تسكن صقيع الأبدية، ونحنُ نتقلّى في جحيم الحصاد اليومي للأرواح العراقية البريئة التي تستغيث على مرأىً ومسمع من العالم المتحضر، عالم الحريّات وحقوق الإنسان، ودعوات السلام، عالم الديمقراطيات المزيّن بالخديعة والفتك، بالدمار، وتبديد الثروات، وإشاعة آفة الجوع وسرقة التاريخ، وتشويه مباهج الوجود، وتركيع كبرياء الإنسان، درّة هذا الكون… ونصبر، نتلفّع بدثار الوحدة والفقدان والترقب والهلع، برغم غيابك الأبدي الذي جرّعني كؤوس اللوعة، أُحسكَ الآن لصقي، أختاركَ صاحبي ونار شكوتي وأناشيد حزني، لفراق أحبتنا وعتمة مسرحنا، (خيارنا في هذه الدنيا) الذي انتقيناه سلاح رفض واحتجاج وتمرد لنعبر من خلاله عن موقفنا الوطني الشجاع والإنساني عما يشغلنا في اضطراب هذا الكون، المسرح الذي من أجله أتلفنا زهور الوقت وضوء الروح كي يتعملّق مشاكساً ومخاطراً وضرورة يومية للناس، هذا المسرح ضاع فناً ومعماراً ووثيقة، أُستخف بدوره، أُهملت، سُرقت، دُمرت، وأُحرقت بيوته، ولا ندري في أي من الحقب الكريمة يجود الزمن ببارقة أمل لينهض هذا المسرح من جديد… أتواصل معكَ فيما أكابده، وفيما خططنا وقررنا، وهو قرار لم ينطلق من عجالة آنية أو لهوٍ عابر، إنما ينشد إلى تلك اللحظات الحاسمة التي دمغنا فيها نقطة البداية عام 1969 في تلك المساءات البغدادية الرائقة، أيام كانت بغداد لنا، بغدادنا، ولنا تلك النهارات والليالي المضمخة بأريج الجد والحركة، لنا المسرح، مدارسه في أكاديمية الفنون الجميلة، ولنا جمهوره وبيوته وأعراسه في مسرح الأكاديمية، ومسرح بغداد، في معهد بغداد التجريبي “أسسّه الأستاذ والفنان الكبير إبراهيم جلال 1969” وفرقة المسرح الفني الحديث والمسرح القومي في كرادة مريم، وفرقة المسرح الشعبي، ومسرح ألـ 60 كرسياً، والمسرح الوطني، لنا الصخب والحرية والصعلكة والأمل، لنا الحياة في شارع الرشيد، وشارع السعدون، وشارع أبي نواس، ومنطقة الوزيرية، وباب المعظم، وساحة الميدان، ولنا المقاهي: مقهى البلدية، وأم كلثوم، وحسن عجمي، والبرلمان، عارف آغا، الشابندر، البرازيلية، الخيام، زهرة وعلي، كازينو رعد، ليالي الأندلس، الرفاه، السلام، وغيرها… لنا المطاعم والمشارب… هي أماكن عامة، شعبية لا شك لكن رفقتنا اليومية لها، وحديثنا الدائم عن المسرح في زواياها، جعلها تستعذب إطراء هذا اللون من الفن، تأنس معرفته، تتذكره، وتُذّكر الآخرين به، بل تتذكرك وتُذّكرُ بكَ… لن تنساك عوني… ما من مرة توقفنا، أو مررّنا على أي من هذه المواقع – الأعشاش إلا وكنتَ حاضراً هناك، تتحدث، تشرح، تمزح، تحتج، يحتفل وجهك فرحاً لأيمّا إنجازٍ للمسرح العراقي في الداخل أو في الخارج، تعاند، وتصرخ، وتخطّ بذراعيكَ المدى…
نعم أيها العزيز.. للمكان روح حافظة للمحبين، وذاكرة لا تشيخ… فكيف بي أنا البشري الذي أنزرعتْ، نمتْ وأورقتْ بيني وبينكَ فصول عهد شراكة لا تنقطع أبداً في الطموح والاصالة والموقف والرؤيا… لذا لا يقلقني عليك، سوى جحر غيابك… فأنت أيها الصاحب موجود في كل فعل عراقي جديد، موجود إنساناً ومسرحياً ومعلّماً ومحفزّاً يبادر ويُغني ويحرك مسرحنا العراقي…أدري أنكَ إخترتَ قبلة الخلود مذ أن عزفتَ ألحانكَ الجديدة في ذلك الجري النهاري الليلي اللايهدأ في تفاصيل حياتنا المسرحية العراقية، فمثلك صاحبي لا يمكن لغيابكَ الحق أن يطوي سجل سِفرْك، بل أنا على يقين أكيد من أن إضاءات ذكرك باقية، تُبشّر بأزمان جديدة أيها الأصيل، يا ابن سومر وأكد وبابل وآشور، يا ابن العراق الواقف كنخيله الشم وإصرار رافديه على الأزل…