عوني كرومي..
الفنان الذي بشر بميلاد المسرح الجاد وعبر عن هموم الانسان
وخلجاته من خلال النص المسموع
بقلم: عبدالوهاب النعيمي
كان احد اعمدة الحضارة العراقية المعاصرة قبل ان يكون احد اعمدة المسرح العراقي ، اغنى التجربة المسرحية العراقية والعربية ، لا ، بل وحتى العالمية بمحبة الروح قبل ان يغنيها بأخراج نصوصه الراقية الرصينة ، عشق التأريخ ، فتوغل في مجرياته، مبحرا نحو الاعماق فيه ، لينهل من صفحاته المشرقة قلائد الجمان ، وكان الباحث ابدا في خفايا حكاياته الطلسمية واساطيره التي حفر سطورها النحات الآشوري قبل اكثر من ثلاثة الاف سنة على رقيم الطين ليودعها في خزائن مكتبة آشور بانيبال كي تبقى دليلا وشاهدا لحضارة ذلك العصر الذي نبت فيه الحرف شجرة وصار الكتاب شمسا.
تعامل مع ” برخت “برؤية الروح الشرقية الاصيلة من خلال منهجية مسرح الايقاظ ، وكانت نظرته للمسرح تتوحد مع تلك الرؤى العميقة في داخله معبرا عن تفائله اللامحدود في كل جملة ينطقها الممثل على خشبة المسرح ، الذي اعتبره الامل والمستقبل والحياة المتجددة ، وكان يردد بشكل دائم ومستمر شعار برخت ” العمل مسرة”
لااخال ان شمعة هذا الفنان المبدع قد انطفأت لحظة موته ، ولا اعتقد ان رقدته الابدية قد غيبته عن عرش المسرح وذلك الجمهور الذي كان دائم الحضور ودائم الاعجاب في كل ماقدمه الفنان الراحل من اعمال ابداعية تم اختيار نصوصها بعناية فائقة الدقة، حيث قوبلت بترحاب المتلقي و ارتياح الناقد في كل بلد من البلدان التي زارها او اقام فيها مثل سوريا والاردن ولبنان ومصر والكويت والجزائر وتونس ، وهو يبشر في كل عمل جديد بميلاد مسرح جاد يتبنى هموم الانسان المعاصر ، ويعبر عن فكره، ويتطابق مع طموحاته الايديولوجية .
لكون عوني كرومي حمل حزن الانسان وهمومه ، وعبر عن خلجات نفسه من خلال النص المسموع ، فقد تعامل الاديب مرتضى الحسيني مع هواجس الروح العميقة في كل ما يتطلع اليه هذا المبدع الخرافي ، ليجعله الشخصية الرئيسة في مسرحية كان قد كتبها في موطن الغربة ” السويد” تسانده شخصيات واقعية تتألف من كاتب المسرحية ، الصوت ،بغداد ،دجلة ،المئذنة ، النخلة ،مجموعة رجال ،التاريخ ،ثم نرجس ، وهي ابنة كاتب المسرحية ،وقد وصف الحسيني مكان المسرحية بأنها مساحة في غربة الروح، وهذا مما يدلل على المكانة الكبيرة التي احتلها عوني كرومي في تلابيب المسرح التي اعتبرها امتدادا لتلابيب القلب والروح !
أخرج عوني كرومي أكثر من سبعين عملاً مسرحياً منها: فطور الساعة الثامنة، في منطقة الخطر، كاليكولا، غاليلو غاليليه، كريولان، مأساة تموز، القائل نعم القائل لا، تداخلات الفرح والحزن، فوق رصيف الرفض، الغائب، حكاية لأطفالنا الأعزاء، كشخة ونفخة، الإنسان الطيب، صراخ الصمت الأخرس، ترنيمة الكرسي الهزاز، بير وشناشيل، المحفظة، المسيح يصلب من جديد، الصمت والذئاب، عند الصلب، في المحطة، الشريط الأخير، المساء الأخير، الطائر الأزرق ،أنتيجونا، فاطمة، السيد والعبد
ولد في مدينة الموصل عام1945 ، وحيث لم يكن في المدينة يومذاك معهدا للفنون الجميلة ، فقد حمل حقيبته وهوالفتى النحيف ابن السابعة عشرة ليقف على عتبات معهد الفنون الجميلة في بغداد ، وتحديدا على بوابة قسم التمثيل وإلاخراج فيه ليتخرج عام 1965، ثم ليلتحق في العام التالي للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد ايضا ويتخرج منها عام1969. بعدهاحمله طموحه اللامحدود لمواصلةالدراسات العليا ليحصل على “ماجستير” علوم مسرح من معهد العلوم المسرحية في جامعة همبولدت في برلين- بألمانيا الشرقية قبل توحيدها عام 1972 ثم يتواصل بدفق طموحه للحصول على شهادة الدكتوراه في العلوم المسرحية من المعهد ذاته في جامعة همبولدت الالماني عام1976 . بعدها عاد الى بغداد ليدرّس في جامعتها، الا انه سرعان ما عاد الى ديار الغربة ليعمل مدرسا للعلوم المسرحية في العديد من الدول العربية والألمانية بين الأعوام من1977وحتى العام 1997 وخلال تلك الفترة شارك في العديد من المؤتمرات والمهرجانات والحلقات الدراسية العربية والعالمية بين الأعوام التي امتدت حتى عام وفاته2006 ،حصل من خلالها على العديد من الجوائز العالمية في مهرجانات بغداد، القاهرة، قرطاج، برلين . كما حصل على لقب ( وسيط الثقافات ) من مركز برخت في برلين
لم يكن عوني كرومي تاجرا للدواجن اوباحثا في فضاءات المسرح ليحقق المزيد من الربح المادي السريع ،بل كان استاذاً اكاديميا اومخرجا مبدعا، بل و رمزا كبيرا من رموز ثقافتنا العراقية واحد ابرز تجلياتها وسماتها الحضارية.
ابتدأ مشوار عوني كرومي في مجال المسرح منذ لحظة وصوله الى العاصمة بغداد ، فهو لم يفد اليها طالبا وحسب ، بل قدم اليها وهو محمل بهم ثقيل يحمل ذاك الارث المتواصل عن مسرح الموصل الذي ابتدأ مشواره في مطلع عام 1880ببواكير تجريبية ساخرة لتتواصل في ثلاثينات القرن المنصرم على شكل فرق وجمعيات لها حضورها الفاعل في المجتمع الموصلي ، ثم ليكون حضورها اقوى وامضى في الخمسينات على ايدي رواد المسرح المشخصة اسمائهم واعمالهم في تاريخ المسرح الموصلي ، ممن اثروا تأثيرا مباشرا في جيل النهضة الحداثوية للمسرح والذي كان عوني كرومي احد المبرزين منهم ، حيث اتيحت له فرصة لم يكن ليحظى بها احدغيره من مجايليه الشباب ،وتتمثل بعمل والده في المطابع الموصلية التي كانت تطبع دواوين الشعر والروايات والقصص القصيرة والمسرحيات ، كان كرومي ينهل من هذه الاصدارات المزيد من الثقافة مما اهله لحضور العروض المسرحية في قاعات العروض في وقت مبكر من عمره، ومناقشة الممثلين والمخرج ، بل وحتى مؤلف المسرحية في طريقة العرض وبناء المشهد الدرامي وتجسيده من خلال المكونات الاساسية في المسرح مثل الاضاءة والديكور والملابس والاكسسوارات والالوان وطريقة ظهور الممثل على خشبة المسرح ، وكان بفعله هذا يترجم المشاكل الاجتماعية المعاصرة للمجتمع الموصلي في بوصلته المحلية المحدودة الجانب ومشاكل المجتمع العراقي برمته، ولم يكن هذا الفعل النقدي الواقعي ليخلو من الدعوة ولو بشكل مبطن او غير ظاهر الى توجيه المسرح ليكون احد الادوات المهمة التي تدعو الى التحرر والخلاص من الواقع المؤلم الذي يعيشه المجتمع العراقي ، وهي كما نرى كانت دعوة متقدمة لتثوير المسرح وجعله اداة رفض للعبودية التي عاني منها ابناء الشعب العراقي ، وكان من خلال هذه الطروحات يؤكد على ان المسرح يجب ان يكون المعبر الحقيقي عن رأي المجتمع وان تكون تجاربه وطروحاته لها مساس بالواقع العراقي ومعاناة ابنائه من استبداد الحكم والحكام .
لقد افصح عن آرائه بشكلها الواسع حينما انتقل الى الدراسة الاكاديمية في العاصمة بغداد حيث التقت طروحاته المهنية بشكلها الظاهري مع طروحاته الفكرية بواقع مضمونها خلال احتكاكه المباشر مع عدد كبير من العاملين في مجال المسرح وعمالقته آنذاك . اما تجربته الاحترافية فأنها كانت متواضعة في بداياتها ، اذ لم نجد لها اي مدى ولم تظهر له بصمة واضحة في هذا المجال لاسباب ارادية ، ذلك لكونه قدم الى العاصمة بصدد الدراسة وليس بدوافع العمل او الاحتراف ، وبعد انهائه سني الدراسة انصب جل اهتمامه في عمله كاستاذ في اكاديمية الفنون الجميلة كما اشار الى ذلك غياث عبدالحميد في مقاله الموسوم ” قراءة في تجربة الفنان عوني كرومي الاخراجية” المنشور في ثقافة الصباح الجديداليومية البغدادية ،
حيث يضيف ان هناك بعض التجارب الاخراجية على مستوى الاحتراف للفنان الراحل عوني كرومي ، اهمها تجربة تخصبت في مخيلته وولدت على مسرح”الستين كرسي “ وهي مسرحية”ترنيمة الكرسي الهزاز “ والتي تعد واحدة من اهم اعماله.
اما لتغريب”بريخت “ عند فناننا عوني كرومي فيتمثل في استغلال قاعة العرض، فتارة يقسمها الى قسمين ويجعل بذلك المتفرجين متقابلين واخرى يجعل العرض على شكل صليب ويتداخل المتفرجون مع الممثلين ، بعبارة ادق يكمن التغريب عند عوني كرومي في وسائل العرض المسرحي من ديكور وانارة وملابس.
اما على مستوى التنظير فان فرضيته فيما يخص الفضاءالمسرحي وكما يقول هو:”يجب ان يتغير اولاً “ وله في ذلك رؤى افتراضية مفادها قتل اعتيادية المشاهد وترفه المسرحي ،وبالتالي يكون هو”اي المشاهد “ المجال للحركة والمجال للرؤية كي تاخذ الصورة المسرحية ابعادها التعبيرية والرمزية والايحائية خالقة تتابعاً شعرياً يتكامل فقط عندما يبدأ المشاهد ببذل جهد عقلي في تلقيه للعمل الفني ، فالمشاهد هنا لم يعد مشاهداً متلقياً لما يطرحه المسرح عليه بل مشاهداً مشاركاً فيما يحدده هو داخل المسرح، ومن البديهي جداً اذا قلنا ان المسرح لا يؤمن بجاهزية الافكار التي يطلقها وانما على المشاهد ان يستلم ويتحسس لما يجري داخل عملية العرض المسرحي وبالتالي فهو حر في التفسير والتاويل والتخيل.
اشار الناقد ياسين النصير في موسوعة العراق الى أن الدكتور عوني لا يبني علاقته بالنص لمجرد الرغبة في العمل، أو لملئ فراغ سنوي في حياته الفنية، بل أن البناء يقوم على حس ما بالمسؤولية تجاه المتفرج. فبالإضافة إلى أنه خليه عمل متواصل، لا يهدأ من عمل إلا ويكون قد أبتدأ بعمل آخر، ولا يترك فرصه مهما كانت صغيرة إلا واستنفذ شروطها كاملة. فقد عمل في ظروف قاهرة ، مما قلل من نشاطه ، الامر الذي اضطره إلى مغادرة العراق للعمل في جامعة اليرموك في الأردن مخرجا واستاذا. ومن هناك أيضا بدأت محاصرته بحجج دينية وفنية ليغادر إلى موطن دراسته في ألمانيا. ولكنه في كل محطات رحلته لم يكن إلا خلية نحل منتجه. ففي الأردن أنتج وأخرج أكثر من عشر مسرحيات للطلبة ولفنانين أردنيين وعراقيين أنتجت أرضية من البنية الفنية أصبحت لاحقا قاعدة للقسم الفني في الجامعة. ومن هناك ومن بلد مجاور هو الأردن كان يضع العراق ومشكلاته واضطرابه الروحي والسياسي مادة خلفية لأعماله فيجد في تشيخوف ضالته يبحث من خلال الخال فانيا و بستان الكرز عن نماذج فكرية يطل بها على العراق وعلى مرحلته المضطربة. ومن داخل العمل يناقش بروح منفتحة على التجريب والفن والمسائل الجوهرية في العلاقة بين الأنسان ومصيره. ويكون الفن بكل ما يحمل من مفردات قاسية ومريرة وغير قادرة عن الإفصاح مصدرا لمعالجة ظاهرة العلاقة بين الفكر والواقع. تلك العلاقة ألتي تعلمها يوم كان طالبا في مدرسة فن اشتراكية وبقيت معه ملازمة لكل أعماله. لأنه يؤمن أن عمل الفنان مهما بعد أو قرب عن وطنه لابد وان يصب في تيار تقدمه حتى لو اغترب عنه.
في الثامن والعشرين من آيار من العام 2006 اغمض عوني كرومي عينيه اغماضتهما الاخيرة ، مات مخرج(رثاء اوروك) و(السيد والعبد) مبتسم العينين،قرير النفس، وبموته انطفأت شمعة أخرى من شموع العراق المتوهجة ابدا.
* روائي وناقد عراقي