الرئيسية / نصوص / وداعا ابي …..التقيك في القيامة القادمة

وداعا ابي …..التقيك في القيامة القادمة

 

 

 

 

وداعا ابي… التقيك في القيامة القادمة

 

 

هديل كامل

دمشق

 

 

الرابعة مساء…. موعد الشاي المسائي يجمعنا كعائلة متحابة …ابي هو الذي يعد الشاي لنا بعد ان يثبت عطرابوته بوضع حبات الهيل التي تتربع على ورق الشاي في ابريقه الفرفوري البغدادي…كنا انا واخوتي  نتحلق حول الطاولة التي يتوسطها الكعك العراقي لا رغبة بشرب الشاي ولكن… شملنا الذي تلمه مساءات بغداد الدافئة …ويعلو صوت المذياع ( وعند جهينة الخبر اليقين ) يعلو وسط ضجيج الكراسي الذي نفتعله انا واخوتي لكي ياخذ كل منا احسن الاماكن واقربها الى الكعك ( ابو السمسم ) وماتجود به مائدة ابي الكريمة …واصوات اقداح الشاي هي الاخرى تنتظر من يرتشف الشاي منها ..ممتثلة لطقس يومي ..وكأنها على موعد مع احبة لها …

بعد ثلاثين عاما وقبل خروجي من العراق بيوم واحد …ذهبت اليه ..الى ابي وحبيبي ..تقدمتني طفلتاي وهما تفتحان ذراعيهما …لترميا بقلبيهما بأحضان شيخ احنى الزمن ظهره وزادته حنوا لهفته لتقبيلهما …كان على يقين انه سوف لن يلقانا ثانية …ولانه مؤمن بالله ومؤمن بان الطريقة الوحيدة لنجاة ابنائه هي الخروج سريعا من بيتنا العراقي …كبل قلبه بسلاسل من حديد …واغلق ماقي عينيه ببوابات من فولاذ ….كي يمنع نهر الدموع ويجلد امام فراق ابنائه …امام موت قادم وهو على قيد الحياة …واحدا تلو الاخر ..ابناؤه وبناته واحفاده وحفيداته …كان يودع حياته شيئا فشيئا …حتى ظل وحيدا …لا موعد للشاي ولا لحبات الهيل …ولا يجد عند جهينة أي خبر يقين

اتصلت به قبل وفاته بأسبوعين…

بابا حبيبي …ارجوك ان تاتي الينا …سنؤمن لك كل الطرق كي تاتي الينا …فقط انج بحياتك …لا تكترث… مملكتك بيتك الذي هجروك منه …برحيتك التي صبرت عليها وحرموك من حلاوة رطبها …مكتبتك زادك الذي تقتات منه …اغراضك المنظمة ..حقيبة الحلاقة التي تابى ان ترميها  رغم ان عمرها اصبح يناهز الستين عاما وانت ملازم على تلميعها كل يوم …ذكرياتك التي شوشتها اطلاقات القناص …اترك كل شيء …لا اريد ان ايتم منك …حتى لو كان عمري اربعين عاما مازلت طفلتك المدللة …

اجابني والموت يزحف اليه شيئا فشيأ…( الجواز.. جي ) لم يصدر للان …حبيبتي ربما اموت وهو لم يولد بعد

..وكعادته ( كامل شندي ) كان صادقا حد اللعنة التي رمت بظلها علينا يوم اتصلوا بنا من بغداد

( الوالد توفاه الله ….البقية في حياتكم )

والجواز (جي ) مايزال رهين الروتين …ونخلاته وزهوره تيتمت من نظراته …وهو يتاملها ويستنشق البقاء من عبيقها …كم من البذور ازهرت على يديه …وكم من خواءات اينعت ورودا ورياحين وهو يحرث تربتها ليعينها على حياة كريمة …ترعاها كفوفه التي تشق لها جداول من ماء …ترويها ويرتوي هو بنموها وازهارها …

مات ابي غريبا في وطنه …غريبا من احبته ..من ابنائه من بيته من ممتلكاته ….كل جميل قتلوه…

ثلاث فواتح اقيمت له خارج الوطن …وتحار روحه في أي فاتحة تقيم …تفرقت روحه على كل

المنافي التي توزعت ابنائه …فمن يلم شمل روحه بعد هذا الشتات …

أي قيامة هذه التي صارت فيها مجاورتنا لاحبائنا وهم يموتون من الاماني المستحيلة …اي قيامة هذه التي صرنا فيها لا نورث الا الوحشة والفراق والحرمان … أي قيامة هذه التي تجعلنا ننجو بانفسنا ونترك اباءنا يكابدون الموت وحيدين …كيف سيغفر الله لنا …وكيف سيرحمنا اولادنا…؟؟؟؟

ابي …سامحني …واغفر لي …ساظل مكبلة بذنبي هذا حتى التقيك في القيامة القادمة…

 

هديل كامل

دمشق

 

hadeel1967@yahoo.com

www.alnakhlahwaaljeeran.com

 

عن هديل كامل

شاهد أيضاً

اللغة المشتهاة

بقلم : عبد المالك زيري أَقبلْ على العالم من جديد وانظر إليهِ كما أنظرُ إليكَ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *