حالة ملتبسة بين مثقفين.
زهير الهيتي
.
طوال عام كامل على رحيله،كنت ارفض بعناد فكرة غيابه النهائي عنا!..هكذا بكل بساطة!..مات وترك لنا الحيرة الممزوجة بالألم والغضب..مات وتركنا نمارس من ورائه خطيئة الحياة في هذا الزمن الأغبر..
طوال عام كامل كنت اتهمه”بالخيانة” لأنه تسرب من بين أيدينا بدون حتى أن يلمح لنا بذلك أو أن يقول لنا ..وداعاّ..!
بعد اليوم لا يمكن إلا أن اقر برحيلك النهائي وان استعد لوداعك،خصوصا وأنا أقراء كتاب مهدا إليك وبكل شجاعة..من كاتبة كويتية إلى مخرج عراقي..من فوزية شويش السالم إلى عوني كرومي..انه كتاب ( رجيم الكلام ) وهو كتاب يختصر بشكل رائع تلك العلاقة الملتبسة التي تربط هذين البلدين..العراق-الكويت!
عندما كنا صغاراّ في المرحلة الابتدائية،كان مدرس مادة”الوطنية” – ولا ادري لحد الآن لماذا كانوا يدرسونا هكذا مادة،فالوطنية شعور طبيعي وليس مكتسب- أستاذ جلال يرفع على السبورة أمام أبصار تلامذته الصغار،خارطة العراق،ويشير إلى جنوبه حيث قطعة ارض مثلثة صغيرة تدعى الكويت،والى غربها قطعة معينيه الشكل تدعى المنطقة المحايدة،وهي ما بين الحدود العراقية السعودية..ثم قال بحماس وانفعال تسرب إلينا (( لا اعرف ماذا ينتظر العراق والسعودية لإتمام الصفقة،الكويت إلى العراق والمنطقة المحايدة إلى السعودية)) هكذا بكل بساطة!..
بعد أن حدث الذي حدث ودمر العراق نفسه وجارته الصغيرة،تبقى المسؤولية الأخلاقية لترميم العلاقات على عاتق المثقفين وليس السياسيين..فمحاولة الارتقاء والتسامي على مشاعر الغوغاء لا يقدر عليها غير المثقفين الحقيقيين وان بناء علاقات متوازنة رأسمالها المحبة والاحترام والتسامح لا يقدر عليها غير المثقفين الحقيقيين.
كان لنجاح تجربة الكويت القصيرة عمريا،بالقياس إلى العراق،وعلى الصعيدين السياسي والاقتصادي قد وضعهم بدون تخطيط منهم محل حسد وطمع الحكومات الفاشلة التي توالت على حكم العراق منذ بدأ العهد الجمهوري ولغاية كارثة الغزو..أسوق هذه المقدمة لان الدكتور عوني كان من المعجبين جدا بالتجربة الكويتية،ومساحة حرية الرأي التي كانوا يتمتعون بها،ويدافع عنها جهارا نهارا،حتى وصل الحد بالبعض من”أصدقاءه” باتهامه بنقصان الشعور الوطني(وذلك ذكرني بدرس الوطنية إياه!)..لأنه كان رافضاّ بشكل قاطع عملية الاستيلاء المؤلمة على هذا البلد،والغريب أن البعض من “أصدقاءه”هؤلاء كانوا من المحسوبين على اليسار!
تعود علاقة المثقفين،فوزية وعوني،إلى ما قبل عملية الغزو،هذا ما تذكره المؤلفة في كتابها الجميل(رجيم الكلام) ولأنهما نوعية راقية من المثقفين،عادت علاقة التواصل الفكري والإنساني إلى مستواها،بالرغم مما خلفته التجربة من الم مازال قويا ماثلا في الذاكرة..بالرغم من أني لا اعرف الكاتبة شخصيا،إلا أني اشعر بعكس ذلك..فعوني كان فخورا جدا بها،ويعتبرها من أهم الأصوات النسائية في منطقة الخليج والتي استطاعت في زمن قصير من تثبيت اسمها وموقعها على الرغم من المصاعب الجمة التي لاقتها والتي تصف بعضا منها في كتابها هذا!..عندما كان يصله كتاب منها مذيلا بإهداء جميل،يقرءا الكتاب بسرعة ثم يضرب لي موعدا ويقدمه لي وهو يقول-اقرءاه بسرعة حتى نتناقش به- والحقيقة انه لم يكن لينتظر ذلك بل كان يبدءا على الفور في نقل انطباعاته عنه..لهذه الأسباب اشعر باني اعرفها جيدا..وكما هو متوقع منها،كرست الوفاء بإهدائها لكتابها الأخير إليه حتى بعد موته!..هكذا تكون مسؤولية المثقفين الملتزمين ومستواها الراقي،على الرغم من الجرح النازف لحد الآن جراء العلاقة الملتبسة بين البلدين..
من يقرا الكتاب سيعرف كم هي صعبة عملية اختراق غابة الثقافة ألذكورية التي تسود مجتمعات محافظة كما هو الحال في الكويت،وتعري الكثير من زيفها..(أسرار ونارنج) مسارين لشخصيتين..تتوازى وتتقاطع لكن بلا أشباك أو فوضى..أن الأحداث تقودنا إلى مواطن العفن الفكري،وتحاول تطهيرها واقتلاعها..تفضح لنا تفاهة الحروب ومبرراتها التي لا تنطلي إلا على السذج وأصحاب المآرب!..ما بين الذاتي والمتخيل تمضي بنا الكاتبة في سلاسة لغوية وقدرة على شد القارئ في متاهة فلسفية ولكنها لا تترك يد القارئ في تلك المتاهة وتلقي به،بل تقوده بوعي ورفق إلى ما ينبغي عليه أن يدرك ويستوعب..إلى ما يجب أن يكون عليه الإنسان. وعلى الرغم من أن موضوع الاحتلال حساس جدا للكثيرين ممن يقفون على الضفتين،ألا أنها لم تخشى أن تضع مبضع الحقيقة على هذا الجرح المؤلم..
في النهاية لا يمكن أن أقول..كم نحن بحاجة إلى مثقفين كهؤلاء..إلى عوني كرومي وفوزية شويش السالم