الرئيسية / دراسات / محاولة صوب نقد جديد

محاولة صوب نقد جديد

 

 

 

محاولة صوب نقد جديد

مع تطبيق على قصيدة أحمد مطر

أَعِـدْ عيني لكي أبكـي علـى أرواح أطفـالِكْ !

 

                          أثير عادل شواي

 

كانون الثاني 2007

With a flaming spear you crushed
All its ice until my soul
Roaring toward the ocean rushed
Of its highest hope and goal.
Ever healthier it swells,
Lovingly compelled but free:
Thus it lauds your miracles,
Fairest month of January!

 

 Dr.Friedrich Nietzsche

 

 

 

 

 

 

 

المحتوى

 

المقدمة 4
المهاد              5            

 

 

الشاعر والنص 8
التحليل 14
الورقة الأولى 14
الورقة الأخرى

 

 

17

مقدمة

 

 

 

لقد كتب هذا البحث أوائل السنة الجارية 2007 وكنت تلميذا بكلية الآداب في الجامعة المستنصرية ببغداد. وقد حاولت وأنا أكلف بالكتابة عن إحدى قصائد أحمد مطر أسوة بالآخرين أن أضمنه نظرات نقدية بدت تتسق وتتبلور لدي على نحو ما لم يكن يرضيني آنذاك ولكني كنت أجد من الحكمة إطلاق ذلك واختباره مع الآخرين. وكذلك ومع نفسي إن أعوزتني لقصوري رفقة ممن لا غنى عن علمهم الذي افتقر إليه في هذا المضمار، وممن يستأنس برأيهم وتنضج الأفكار بنقاشهم وبرؤاهم وبتصوراتهم، ولكن الحماس جرأني كثيرا، فضلا عن الظروف الإستثنائية المعروفة.

 

هكذا ظهر هذا البحث الموجز . وربما يمكن النظر إليه بوصفه وثيقة على مجالات معينة تكثر أو تقل وفق رؤية الدارس لها.     

 

وإنني أزعم أن هذا البحث بقدر ما يتضمن كما لا يستهان به من الجموح فإنه ينطوي أيضا على قدر من الفعالية النقدية قياسا بظرفه الذي جاء فيه، وإن تكن فعالية غير محمودة العواقب، بل مضرة في جوانب متعددة منها!

 

لم تأت قصيدة أحمد مطر باختياري بل كلفت بها أسوة بالآخرين. وهذا جلب الفائدة في أنه جنب البحث صفة الانتقائية من جهة، وسمح لي بدراسة منجز شاعر لم يدرس على نحو كاف، وإن كانت دراستي على ما هي عليه من قصور.

 

 

 

 

 

 

مهاد

 

تنطلق نظرتنا النقدية في هذا البحث الموجز من زعم ما فتأت أسسه تتوطد بإطراد ، ومفاده أن العناية بالجوانب الفنية وحدها في النص الأدبي لا تؤدي إلى قصور كبير في فهم النص حسب ، بل إلى نقص حاد في استيعاب مكتنزاته الفنية نفسها . لم يكن بإمكان الدراسات التي تطرفت بالعناية بالجانب الفني إلا أن تصل إلى طريق مسدودة ، ولاسيما إن اندفاعها الفني تأسس في جانب كبير منه على أيدي نقاد ومنظرين شنقوا انفسهم والنقد من دون داع بحبل تقليد المناهج العلمية التي كانوا يشعرون أمامها بعقدة نقص ، بعد أن غاب عنهم أن الحقل الذي يشتغلون عليه يقوم على طرف نقيض مع ميادين المعرفة العلمية الأخرى بل إن قوام الحقل الأدبي ينطوي في كثير من مجالاته على مفارقة الحقول الأخرى ؛ فشتان ما بين الخيال عماد الأدب وحجر زاويته والواقع الفيزيائي الذي تتمحور حوله العلوم المختلفة !

يقف الآن النهج الفني الصرف الذي سلب من النص روحه عندما انتزع منه موضوعه قسراً ، فقتلهما في آن معاً في نهاية الطريق المسدودة وليس عليه إلا أن يلوم قصر نظره وضيق أفقه . فبقليل من الحصافة كان من الممكن تبيان هذه النهاية منذ وقت مبكر إلا أن عقدة النقص من المناهج العلمية ، وإغترار النقاد والمنظرين الفنيين بالإنجازات العاجلة التي ما كان للحقل الأدبي إلا أن يمنحها لهم وهم يتحلقون حوله بمنظار اقتصر على زوايا ضيقة بدا الجانب الفني في النص الأدبي من خلالها بكراً ، بيد أنه سرعان ما استهلك أمام فوران الدراسات من هذا النوع ، مما اضطرها إلى اللجوء الى الشطط النظري للظفر بجديد .

إن ما نسعى إليه هنا هو التوجه نحو رؤية مغايرة للنقد تحاول دراسة النص ضمن التعالق غير القابل للإنفصام بين شكله وموضوعه وبآليات بعيدة بعداً كبيراً عن الدراسات النصية التي سادت منذ عقود على المشهد النقدي ، مع الإفادة من منجز هذه الدراسات لكن بقدر انسجامها مع الرؤية العامة التي ننتهجها .

إن حجر الزاوية في منظورنا النقدي يقع في قناعتنا بأن الموضوع والشكل متلاحمان على نحو لا تمكن دراسة فنية أن تقوم على أحدهما فقط إن أرادت الوصول إلى نتائج مهمة . وتتسم العلاقة بين الموضوع والشكل بطابع إتباعي من الآخر للأول. فكلما امتاز الموضوع بالجدة والأصالة والتفرد والقوة اتخذ الشكل صيغاً فنية متميزة وارتقى مسالك جديدة في الصياغة والمعالجة ، وذلك وفقاً للدرجة التي سجلها الموضوع في تفرده وأصالته . فالموضوع يسحب وراءه شكله – الذي هو بمثابة الملامح للوجه – إلى الأفاق الجديدة التي يجتاحها ، أو أنه يحبسه معه في زنانة التقليد .

طبيعة العلاقة بين الموضوع وشكله لا تفهم في هذه الرؤية على نحو ما درجت على طرحه نظريات ومناهج كالبنيوية ، إذ جرى فهم النص الأدبي والعالم بإسره بوصفه شبكة من العلاقات التي يستند بعضها ببعض على نحو يُقصى فيه الفاعل أو المؤلف أو الإنسان الذي ما إن أعلنت البنيوية موته حتى ماتت هي نفسها . ولكن رؤيتنا تنظر إلى هذه  العلاقة بصورة يظهر فيها الإنسان – المؤلف فاعلاً خلاقاً ويظهر النص أثراً لهذا الخالق وحاملاً لرؤاه التي تحددت بعصره وطبيعته النفسية والإجتماعية والفكرية وتجاربة الحياتية إلى غير ذلك مما درج عليه النقد الذي ينعته النصيون بالتقليدي ، وما يعطي منظورنا النقدي سماته المميزة أنه أولاً : لايفصل – بخلاف التقليديين والنصيين – بين الموضوع والشكل . ثانياً : إنه لا يرسل الكلام في تلاحم الموضوع والشكل على عواهنه كما نرى ذلك في كتابات بعض النقاد الذين لا يريدون به سوى التنطع برغبتهم بالنظر إلى النص الأدبي كلاً موحداً بل يقدم مشروعاً واضح المعالم بذلك ، ويقوم على نسبة النص المتميز فنياً إلى موضوع يتسم بالجدة والإصالة والقوة في خرق منظومة القيم السائدة والدفع بإتجاه تبني قيم تناهض العجز والضعف والإنحطاط والتحجر الفكري والروحي . ثالثاً : لا يستعيد الناقد في رؤيتي أثره المستلب في التعاطي مع النصوص على نحو تظهر فيه شخصيته التي ألغتها البنيوية وتوابعها حسب ، بل يكون عليه إطلاق الأحكام التي يرتأيها ، وهو ما جرى العمل بشكل مكثف على تحريميه وجعله معيباً تحت دعوى حيادية النقد التي أفرغت النقد من جدواه وصيرته جداول ومخططات وطلاسم . الناقد في عقيدتي النقدية خالق كالمؤلف ذاته ، وعلى منجزه النقدي أن يرتفع إلى مظان المستوى الإبداعي لهذا المؤلف إن كان متميزاً أو ربما يفوقه ،فالنص النقدي متفرد كالنص الأدبي بما أنه من المستحيل أن يتساوى رأيان أو منجزان نقديان لناقدين حول نص إبداعي واحد ، نظراً لتباين شخصيتهما . وقد سعى النصيون إلى طمس هذا التفرد في ظل مسعى عاجز أراد تغييب الإنسان نفسه ( وأنا أحيل هنا إلى كتاب البنيوية فلسفة موت الإنسان لغارودي ) . ومن خلال هذا التباين في شخصيات النقاد تندرج فقط نظريات القراءة ونقد إستجابة القارىء .

لا يتسع المقام هنا إلا لهذا العرض لرؤيتي النقدية وقد حاولت أن أوجزها بالشكل الذي لا يخل بهيكلها العام . وهي على أية حال تتضح بالتحليل الذي سأجريه على قصيدة أحمد مطر ( أعد عيني لكي أبكي على أرواح أطفالك ! ) وأقوم بدايةً بتقديم إيجاز عن حياة الشاعر أحمد مطر ؛ ويكتسي هذا أهميته بالنظر إلى حجم الغموض النسبي الذي يلف حياة الشاعر ، وسأعقب ذلك بإيراد القصيدة ومعلومات مهمة حولها ليصبح ثمة تقارب مناسب في المعلومات حول الشاعر وقصيدته بين الناقد والقارىء . بعد ذلك سأقدم قرآءتي للنص عبر ورقتين ، تعمل الأولى على تحليل النص وفق ما درجت عليه النصية مع عدم الدخول في جداولها بطبيعة الحال ، ومع التأكيد أن جل ما ستتضمنه الورقة الأولى متأت من إطلاع صاحب هذه السطور وثقافته النقدية العامة أكثر منه تطبيقاً لهذا المنهج النصي أو ذاك .

أما الورقة الأخرى فستعبر عن الرؤية النقدية التي تعرضنا لإيجاز لها ، علماً بأنها ستنطلق من الورقة الأخرى لتبرهن على عمق نتائجها وأهميتها قياساً بالورقة الأولى .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشاعر والنص

 

أولاً : الشاعر

أ ـ حياته [1]:

ولد الشاعر أحمد مطر في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، ابناً رابعاً بين عشرة أخوة من البنين والبنات، في قرية (التنومة)، إحدى نواحي (شط العرب) في البصرة. وعاش فيها طفولته قبل أن تنتقل أسرته،  لتقيم في محلة الأصمعي.

وشرع أحمد مطر في كتابة الشعر في سن الرابعة عشرة إذ اتسمت قصائده آنذاك بالغزل والرومانسية، ثم ما لبث أن تحول إلى السياسة عندما بدأ يشارك في الإحتفالات العامة بإلقاء قصائده ، وكانت هذه القصائد في بداياتها مطولة تطغى عليها نبرة التحريض ضد السلطة التي شددت عليه لذلك ، الأمر الذي اضطرالشاعر، في النهاية، إلى ترك بلاده متوجهاً إلى الكويت، هارباً من مطاردة السُلطة.

في الكويت عمل أحمد مطر في جريدة (القبس) محرراً ثقافياً،  ومن هذه الجريدة نشر قصائده التي سعى الشاعر إلى تكثيفها تكثيفاً شديداً وكان لجريدة (القبس) الأثر الأساس في تعريف القراء بالشاعر ونشر لافتاته .

إلا أن جرأة قصائد أحمد مطر أدت في النهاية إلى إصدار قرار بنفيه من الكويت هو وصديقه الرسام الكاريكاتوري الفلسطيني ناجي العلي الذي كان يعمل معه في ( القبس ) ليستقر الشاعر منذ عام 1986في العاصمة البريطانية وما زال فيها إلى الآن .

يمتاز الشاعر أحمد مطر بأنه الشاعر العربي الوحيد الذي يعيش من شعره ، وهو يقوم في الوقت الراهن بنشر قصائده  في جريدة الراية القطرية تحت زاوية لافتات فضلاً عن مقالات في “استراحة الجمعة”.

 

 ب– منشوراته الشعرية

 

آخراً : القصيدة

 

تأريخ القصيدة ومظانها                                                                                        

 

ظهرت القصيدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وبدا واضحاً بالنظر إلى محتوى القصيدة أنها تتمحور حول العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية والعرب ، وكما يراها أحمد مطر . وقدد حققت القصيدة نجاحاً كبيراً في الإنتشار ، نظراً لموضوعها اللافت والطريقة ذات المأخذ السهل والمفعم بالعاطفة التي استخدمها الشاعر فضلاً عن حدة التقابل بين الأنا والآخر التي تطبع القصيدة وتعطيها صبغة سجالية إنفعالية.       

لم يحو هذه القصيدة ديوان، إلا أنها واسعة الإنتشار على الشبكة الإلكترونية وموجودة في موقع الشاعر أحمد مطر في هذه الشبكة .

أ‌-                النص           

أَعِـدْ عيني لكي أبكـي علـى أرواح أطفـالِكْ !

أَعِـدْ عيني لكي أبكـي علـى أرواح أطفـالِكْ !

أَعِـدْ قَـدَمـي ..

لِكَـيْ أمشـي إلَيـكَ مُعَـزّياً فينـا

فَحالـي صارَ مِن حالِكْ .

أعِـدْ كَفّـي ..

لكـي أُلقـي أزاهيـري

علـى أزهـارِ آمالِكْ .

أعِـدْ قَلبـي ..

لأقطِـفَ وَردَ جَـذوَتِهِ

وَأُوقِـدَ شَمعَـةً فـي صُبحِـكَ الحالِكْ !

أَعِـدْ شَـفَتي ..

لَعَـلَّ الهَـولَ يُسـعِفُني

بأن أُعطيكَ تصـويراً لأهـوالِكْ .

أَعِـدْ عَيْـني ..

لِكَـي ابكـي على أرواحِ أطفـالِكْ .

أتَعْجَـبُ أنّنـي أبكـي ؟!

نَعَـمْ .. أبكـي

لأنّـي لَم أكُـن يَـومـاً

غَليـظَ القلبِ فَـظّاً مِثـلَ أمثـالِكْ !

***

لَئِـن نَـزَلَتْ عَلَيْـكَ اليـومَ صاعِقَـةٌ

فَقـد عاشتْ جَميـعُ الأرضِ أعوامـاً

وَمـازالـتْ

وَقـد تَبقـى

على أشفارِ زِلزالِكْ !

وَكفُّـكَ أضْـرَمَتْ فـي قَلبِهـا نـاراً

وَلم تَشْـعُرْ بِهـا إلاّ

وَقَـد نَشِـبَتْ بأذيالِكْ !

وَلم تَفعَـلْ

سِـوى أن تَقلِبَ الدُّنيـا على عَقِـبٍ

وَتُعْقِـبَهـا بتعديـلٍ على رَدّاتِ افعـالِكْ !

وَقَـد آلَيْـتَ أن تَـرمـي

بِنَظـرةِ رَيْبِـكَ الدُّنيـا

ولم تَنظُـرْ، ولو عَرَضَـاً، إلى آلِـكْ !

أَتَعـرِفُ رَقْـمَ سِـروالٍ

على آلافِ أميـالٍ

وَتَجهَلُ أرْقَـماً في طـيِّ سِـروالِكْ ؟!

أرى عَيْنَيكَ في حَـوَلٍ ..

فَـذلِكَ لـو رمـى هـذا

تَرى هـذا وتَعْجَبُ لاسـتغاثَتـهِ

ولكنْ لا تـرى ما قـد جَنـى ذلِـكْ !

ارى كَفَّيْـكَ في جَـدَلٍ ..

فواحِـدَةٌ تَـزُفُّ الشَّمـسَ غائِبَـةً

إلـى الأعمـى !

وواحِـدَةٌ تُغَطِّـي الشَّمـسَ طالِعةً بِغِـربالِكْ !

وَمـا في الأمـرِ أُحجِيَـةٌ

وَلكِنَّ العَجائِبَ كُلَّهـا مِن صُنْـعِ مِكيـالِكْ !

***

بِفَضْـلِكَ أسـفَرَ الإرهـابُ

نَسّـاجاً بِمِنـوالِكْ

وَمُعتاشـاً بأمـوالِكْ

وَمَحْمِيّـاً بأبطالِكْ .

فَهل عَجَـبٌ

إذا وافاكَ هـذا اليـومَ مُمْتَنّـاً

لِيُـرجِعَ بَعضَ أفضـالِكْ ؟!

وَكَفُّكَ أبدَعَتْ تِمثـالَ (ميدوزا)

وتَـدري جَيِّـداً أنَّ الّذي يَرنـو لَـهُ هـالِكْ

فكيفَ طَمِعتَ أن تَنجو

وَقَـد حَـدَّقتَ في أحـداقِ تِمثالِكْ ؟‍‍!

خَـرابُ الوضـعِ مُختَصَـرٌ

بِمَيْـلِ ذِراعِ مِكيـالِكْ .

فَعَـدِّلْ وَضْـعَ مِكيالِكْ .

ولا تُسـرِفْ

وإلاّ سَـوفَ تأتـي كُـلُّ بَلبَلَـةٍ

بِمـا لَم يأتِ فـي بالِكْ !

***

إذا دانَتْ لَكَ الآفـاقُ

أو ذَلَّـتْ لَكَ الأعنـاقُ

فاذكُـرْ أيُّهـا العِمـلاقُ

أنَّ الأرضَ لَيْسـتْ دِرْهَمـاً في جَيْبِ بِنطـالِكْ .

وَلَو ذَلَّلتَ ظَهْـرَ الفِيلِ تَذليـلاً

فَـإنَّ بَعـوضَـةً تَكفـي .. لإذلالِـكْ !

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التحليل

 

الورقة الأولى  

 

تقوم القصيدة على ثنائية تسري فيها من أولها إلى آخرها : الأنا المتكلمة والآخر المخاطب الذي لا يحضر في القصيدة إلا بضمير المخاطب المذكر المفرد ( الكاف ) وما القصيدة سوى خطاب يوجهه الأول ( الأنا – العرب – نحن ) إلى الآخر ( المخاطب بكاف الخطاب المذكر المفرد – الولايات المتحدة الأميركية – هم ) على نحو يكشف عن طبيعة العلاقة بين الطرفين . هذه العلاقة جرى استهلالها بتوتر منذ عنوانها الذي هو مطلعها بفعل الأمر ( أعد ) ، وبتكرار حرف العين في (أعد) بواسطة الكلمة التي تلته ( عيني ) تكراراً بالحرف ( ع ) وبالكلمة التي تمثله معجمياً ( عين ) ويكتسي هذا التكرار أهميته بالنظر إلى أن هذا الحرف حنجري مجهور شديد الوقع صوتياً ، الأمر الذي يجعل تكراره لافتاً سمعياً . وقد جاء هنا لافتاً بصرياً أيضاً كما أوضحت ، ولاسيما مع علامة التعجب اللافتة ؛ وفضلاً عن ذلك فإن التكرار الذي أعطى لتوتر العلاقة بين الطرفين زخمها الأكبر هو تكرار كاف المخاطب الساكنة الذي تخلل القصيدة كلها بوصفها القافية ، سكون هذا الحرف المجهور في نهاية أكثر الأبيات أظهر صوتياً طبيعة العلاقة الخشنة بين طرفيها.  

بيد أن المفارقة ما تلبث أن تظهر في علاقة الطرفين منذ المطلع؛ ذلك أن صيغة الأمر ذات الوقع الشديد وحرف القافية الساكن الموجة للآخر تتوسطهما رغبة في البكاء على هذا الأخير ، ولم يصدر الأمر إلا في سبيل جعل هذه الرغبة ممكنة . هذه المفارقة تهدد بتقويض طبيعة العلاقة المتوترة بين الأنا والآخر في القصيدة بيد أنها تحل سريعاً بإدراكنا أنها مفارقة جاءت لتدفع عميقاً بهذا التوتر بدل أن تلغيه ، إذ أنها لم تكن سوى أسلوب تعريضي بالآخر ليس غير فالنص يقول : أود لو أشاطرك حزنك . ولكنك أيها الآخر سلبت عيني ( أو تعاطفي ) هل تتذكر ؟!

القصيدة التي تتألف من أربع وحدات وفقاً للعلامات ( النجمات الثلاث ) التي تضمنتها تأتي في وحدتها الأولى برمتها تنويعا على مطلعها ، مكررة فعل الأمر ( أعد ) و أعضاء الجسد التي حلت محل العين : القدم والقلب والشفة والعين نفسها ، ومكررة أسلوب التعريض نفسه .

هذا التكرار للبيت الأول ذي النزعة المباشرة يخلق في الوحدة الأولى رتابة في الصيغ المستخدمة تُتجاوز بالأبيات :

 

أعِـدْ قَلبـي ..

لأقطِـفَ وَردَ جَـذوَتِهِ

وَأُوقِـدَ شَمعَـةً فـي صُبحِـكَ الحالِكْ !

 

إن التجاوز لا يجري بإستعارة الورد للجذوة حسب – ذلك أن استعارة مماثلة سبقتها ( أزهار آمالك ) لكنها لم تضعف من الهيمنة الخطابية في القصيدة –  وإنما يتحقق ذلك بشكل أكبر بالصورة التي ترشح ولا تظهر عياناً لمشهد تقديم الزهور والشموع لنصب أو ضريح أو شاخص ما .

وتختتم القصيدة وحدتها الأولى بالبدء باستعادة المطلع في تكرار يهدف إلى حشد أكبر كم ممكن من الإنتباه ، لتقوم بوضع توتر درامي عبر حوار ينكشف فيه صوت الآخر من تساؤل الأنا :

 

أتَعْجَـبُ أنّنـي أبكـي ؟!

نَعَـمْ .. أبكـي

 

ويأتي البيتان الأخيران ليختما التوتر بتشديده إلى حدود كبرى :

 

لأنّـي لَم أكُـن يَـومـاً

غَليـظَ القلبِ فَـظّاً مِثـلَ أمثـالِكْ !

 

تتحول العلاقة الثنائية المتوترة بين الأنا والآخر في الوحدة الثانية إلى ثنائية أخرى لكنها هذه المرة داخلية خاصة بالأخر ، طرفها الأول صورته ( قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر ) وطرفها الآخر صورته بعدها ، وتهدف هذه الثنائيات إلى إظهار تناقض الآخر بالكشف عن معاييره المزدوجة . ويبدو هذا جلياً في :

 

ارى كَفَّيْـكَ في جَـدَلٍ ..

فواحِـدَةٌ تَـزُفُّ الشَّمـسَ غائِبَـةً

إلـى الأعمـى !

وواحِـدَةٌ تُغَطِّـي الشَّمـسَ طالِعةً بِغِـربالِكْ !

   

الثنائيات المتناقضة في هذا الإقتباس واضحة لا تحتاج إلى تعليق ، لكن ما يجدر قوله هنا إن هذه الطريقة الجدلية النظرية أدت إلى غلبة المباشرة على هذه الوحدة .

الأمر نفسه ينطبق على الوحدة الثالثة . وقد بلغ ذلك ذروته عندما توجه الأنا إلى الآخر ناصحاً نصحاً جاء أقرب إلى التهديد:

 

فَعَـدِّلْ وَضْـعَ مِكيالِكْ .

ولا تُسـرِفْ

وإلاّ سَـوفَ تأتـي كُـلُّ بَلبَلَـةٍ

بِمـا لَم يأتِ فـي بالِكْ !

وهذه المباشرة في الصياغة هي من حدّت من إستخدام الأسطورة (ميدوزا ) في الوحدة .

  تُختتمُ القصيدةُ في وحدتها الرابعة الموجزة المباشرة في اسلوبها بنصيحة يسديها الأول للآخر مقترباً فيها من مشارف الحكم والأقوال المأثورة ومستخدماً ثنائيتين ضديتين : الأولى معنوية : التذليل والإذلال، والأخرى مادية تعتمد على التباين في الحجم : الفيل والبعوضة . لكن صياغة هذه الثنائيات وبضغط من التزام القصيدة بأسلوب مخاطبة الآخر جاءت على نحو مباشر : 

وَلَو ذَلَّلتَ ظَهْـرَ الفِيلِ تَذليـلاً

فَـإنَّ بَعـوضَـةً تَكفـي .. لإذلالِـكْ !

 

 

الورقة الأخرى :

 

نقطة الشروع الأولى

 

يتشكل شعر أحمد مطر من ثيمة أساسية قد تكون – مع استثناءات جد قليلة- الثيمة الوحيدة له ، وهي نقد الواقع السياسي العربي المتخلف والسخرية المرة من دكتاتوريته ومؤسساته وأجهزته وبيوقراطيته وقمعه وفساده. ولعل أسم أحمد مطر سيكون الأكثر سطوعاً من بين أسماء الشعراء العرب عند السؤال عن الشاعر السياسي العربي الأول ؛ فهو لم يكتب عن أي موضوع آخر بصورة قد تستأثر بالعناية مطلقاً . وينحو شعره السياسي نحواً ينطلق فيه من رؤية المواطن البسيط ، الضحية التقليدية للدكتاتورية الباطشة ، ويتأطر بإطاره في إختيار الفكرة وصياغتها وطرحها . فالأنا في قصيدة أحمد مطر أنا المواطن دائماً ، المواطن الذي أحدد مستواه الفكري والثقافي بالقارىء المعتاد للصحيفة اليومية ، بوعيه البرجوازي البسيط ، وبشعوره الدائم بالقهر من السلطة الدكتاتورية التي لا يتجلى جبروتها كما يتجلى عليه بفعل تراتبية موقعه في المجتمع ، ذلك القارىء الذي يخاطبه أحمد مطر بالذات ، كونه زبونه ، ( عاش أحمد مطر وما زال على نشر قصائده في الصحف ) .

علينا أن لا نفهم قصيدة أحمد مطر بعيداً عن الصحيفة ، فقد نشأ صحفياً في ( القبس ) وهناك نشأت قصائده الناضجة الأولى ، وظهرت متأثرة بمهنة صاحبها وما يحيط به من أجواء وجو نفسي وغربة بسبب السياسة ، وخرجت إلى النور على صفحات القبس ، مخاطبة جمهورها جنباً إلى جنب مع الأخبار والتصريحات والمقالات ، وأن يسمي الشاعر معظم دواووينه ﺑ( اللافتات ) أمر له دلالته .

لقد قعّد أحمد مطر قواعد قصيدته في الكويت بعد خروجه من العراق في أحضان الصحافة وقياساتها وقوانين العرض والطلب فيها ، فوضع أسس شعره غير بعيد عن ذلك ؛ فجاءت قصائده البسيطة كل البساطة بلغة صحفية مباشرة تتوخى الألفاظ السهلة والمعاني المتداولة، والصياغة سهلة الإستيعاب مما ليس فيه كد للذهن ، ولا إجالة الخاطر، وإيغال في النفس الإنسانية ، ولعل هذا ما دفع النقاد إلى الإنصراف عن دراسة شعره ولاسيما أن هذا الشعر لم يعرف تطوراً فنياً على الرغم من صاحبه يعالج القريض منذ نحو ربع قرن !

 

 

  نقطة الشروع الثانية

 

يحاول أحمد مطر أن ينتصر للمقهورين من مواطنيه على إمتداد العالم العربي وهم زبائنه في الوقت نفسه بإن يعيد رسم الأجواء نفسها في كل قصيدة ، ليدينها بالسخرية والكوميدياء السوداء وحشد المفارقات المتبوعة دائماً بعلامات تعجب تثير كثرتها العجب ، ويرسم أجواء الخوف والقهر والتخلف والجهل والدكتاتورية ، رسماً يظهر فيه قطبان : المواطن الضحية ، والحاكم الجلاد ، تماماً كما فعل نزار قباني :

والعالم العربي إما نعجة       مذبوحة أو حاكم قصاب

أو كما يصف أحمد مطر نفسه العالم العربي  في قصيدته الموجزة ضمن ديوانه ( إني المشنوق أعلاه ) :

 

ليسَ في النّاسِ أمانْ

ليسَ للنّاسِ أمانْ

نِصفُهمْ يَعْملُ شرطيّـاً لدى الحاكمِ

.. والنصفُ مُـدَانْ !

 هكذا يبدو عالم أحمد مطر ، مغرقاً في بساطته ووضوحه ، يقول في قصيدته ( الصدى ) في (لافتات 1) :

صَرَخْتُ : لا

من شِدّةِ الألَمْ

لكنْ صدى صوتي

خافَ منَ الموتِ

فارتدَّ لي : نَعَمْ !

ويقول في قصيدته ( التقرير ) في ( لافتات 2 ) :

كلبُ والينا المُعَظَّـمْ

عضَّني اليومَ ، ومـاتْ !

فدعاني حارسُ الأمـنِ لأُعـدَمْ

بعدما أثبتَ تقريـرُ الوفـاةْ

أنَّ كلبَ السَّـيدِ الـوالي

تسـمَّم !

ويقول في قصيدته ( الساعة ) ضمن ( ديوان الساعة ) :

دائِرةٌ ضَيِّقةٌ ،

وهاربٌ مُدانْ

أَمامَهُ وَخَلْفَهُ يركضُ مُخبرانْ .

هذا هو الزمانْ !

 

وفي قصيدته ( محبوس ) ضمن الديوان نفسه :

حِينَ أَلقى نظرةً منتقِدةْ

لقياداتِ النظامِ الفاسدةْ

حُبِسَ ( التاريخُ )

في زنزانةٍ مُنفَرِدَةْ !

ليس ثمة عمق في فكرة أحمد مطر ، كما أنه ليس من شعرية في صياغته ولا صور في قصائده ، بل إن شعره نظم لا غير ؛ لمباشرته ولخلوه من الصور الفنية ، والإستعارة والتشبية والأدوات الفنية فضلاً عن فقدانه لأية سمة موسيقية عدا القافية التي تأتي بصيغة واحدة لا تكاد تتغير.

وإلى جانب سطحية فكرة أحمد مطر الشعرية نجد أنها فكرة تفتقد للخصوصية فهي فكرة كوزوموبوليتية تصلح للعالم الثالث برمته بل وتصدق على بلدان غربية حين كانت تحت نير الدكتاتورية ، وأجد من الصعب بل المستحيل على من لا يعرف جنسية أحمد مطر أن يمييزها عن غيرها، ولا أن يعرف قوميته العربية في حال ترجمت قصائده إلى لغة أخرى ، علماً أننا نعي الفرق الهائل بين الكوزوموبوليتية والعالمية.

نقطة الشروع الثالثة

ليس هناك أمل في التغيير في العالم العربي كما يشير معظم المنجز الإبداعي لأحمد مطر ! وأنى لرياح التغيير أن تهب ونصف الشعب يتجسس على نصفه الآخر ، وصدى الصوت يخاف من الحاكم فيهتف نعم والمواطن هارب بين مخبرين ! إلى آخر ما يكرره الشاعر من صور في هذا الإتجاه . وأمام هذا اليأس تبقى العلاقة بين الحاكم والمحكوم تتردد بمنوال واحد : المواطن مهان وذليل ولا يرقى أبداً إلى مصاف كلب الحاكم، وهذا الأخير من جانبه يظهر بصورة معاكسة للمواطن في العلاقة التي تحكمهما معاً . إن المواطن لا يظهر في العادة في عموم شعر أحمد مطر ثائراً ، أو متمرداً بل يائساً ومنهاراً ومنهزماً ومخذولاً فضلاً عن أن الشاعر لا يحاول خلق أي عمق نفسي له فيظهر طيفاً ذاوياً يعيش منفياً عن الوجود أمام الوجود الطاغي لسلطة الدكتاتور .

إلا أن صفات المواطن هذه سرعان ما يشاطراه إياه دكتاتوره حال ما تنفصم علاقته به لتحل محله علاقته بالدول القوية ، يقول الشاعر في قصيدة حكاية عباس ضمن ( لافتات 1 ) :

” عبّاسُ ” وَراء المِتراسْ
يَقِظٌ .. مُنْتَبِهٌ .. حَسّاسْ
منذ سنين الفتحِ .. يُلَمِّعُ سَيْفَهْ
ويُلَمِّعُ شَاربَه أيضاً ..

منتظراً .. مُحتضِناً دُفَّهْ !

     * * *
بَلَعَ السارقُ ضَفَّهْ
قَلَّبَ عبّاسُ القِرطاسْ
ضَرَبَ الأخماسَ لأسداسْ
بقيتْ ضَفَّهْ
لملمَ عبّاسُ ذخيرتَه والمتراسْ
ومضى يصقُل سَيفَه

     * * *
عَبَرَ اللصُّ إليهِ .. وَحَلّ ببيتِهْ
أصبَحَ ضيفَهْ
قدَّمَ عبّاسُ لهُ القهوهْ

ومضى يصقُل سَيفَه

     * * *

صرخَتْ زوجتُه : عبّاسْ

أبناؤكَ قتلى .. عبّاسْ
ضيفُكَ رَاودني عبّاسْ
قُم أنقذني يا عبّاسْ

     * * *

عبّاسُ وَراء المِتراسْ

مُنْتَبِهٌ .. لم يسمَعْ شيئاً

زوجتُه تغتابُ الناسْ !

     * * *

صرخَتْ زوجتُه : عبّاسْ

الضيفُ سيسرقُ نعجتَنا

عبّاس اليَقِظُ الحسّاسْ

قَلَّبَ أوراقَ القِرطاسْ
ضَرَب الأخماسَ لأسداسْ
أرسل برقيةَ تهديدْ !

     * * *

– فلمن تصقُل سيفَكَ يا عبّاسُ !
– لوقتِ الشِّدهْ
– أصقلْ سيفَكَ يَا عبّاسْ !

والحاكم مثلما يحرك شعبه كالدمى تحركه الدول العظمى بالطريقة نفسها ، وهذا ما يصوره الشاعر في قصيدته ( صندوق العجائب ) في (لافتات 2 ) :

فـي صِغَـري

فَتَحْـتُ صُـندوقَ اللُّعَـبْ .

أخْرَجـتُ كُرسيّاً موشّـى بالذَّهَـبْ

قامَـتْ عليـهِ دُميَـةٌ مِنَ الخَشَـبْ

في يدِهـا سيفُ قَصَـبْ .

خَفَضْـتُ رأسَ دُميَتي

رَفعْتُ رأسَ دُمـيتي

خَلَعتُهـا .

نَصَبتُهـا .

خَلعتُها .. نَصبتُها

حـتّى شَعَرتُ بالتّعَـبْ

فما اشتَكَـتْ مـن اختِلافِ رغبتي

ولا أحسـّتْ بالغَضـبْ !

وَمثلُها الكُرسـيُّ تحتَ راحَـتي

مُزَوّقٌ بالمجـدِ .. وهـوَ مُستَلَبْ .

فإنْ نَصَبتُـهُ انتصـبْ

وإنْ قَلبتُـهُ انقَلَـبْ !

أمتَعني المشهَـدُ ،

لكـنَّ أبـي

حينَ رأى المشهدَ خافَ واضطَرَبْ

وخَبّـأَ اللعبـةَ في صُـندوقِها

وشَـدَّ أُذْنـي .. وانسحَـبْ !

     * * *

وَعِشتُ عُمـري غارِقـاً في دَهْشَـتِي .

وعنـدما كَبِرتُ أدركْـتُ السّببْ

أدركتُ أنَّ لُعبتي

قـدْ جسّـدَتْ

كُلَّ سلاطينِ العـرَبْ !

وهكذا تصل البلدان المحكومة بالطغاة خراباً في كل مجالاتها كحال الزراعة على سبيل المثال في قصيدة (إصلاح زراعي ! ) في ديوان ( إني المشنوق أعلاه )

قَرَّرَ الحاكِمُ إصلاحَ الزراعَـةْ

عُيِّـنَ الفَـلاَّحُ شُرطيَّ مُـرورٍ ،

وابنـةُ الفـلاَّحِ بَيَّـاعةَ فولٍ ،

وابنُـهُ نادِلَ مقـهى

في نقاباتِ الصناعَـهْ

وأخيراً

عُيِّـنَ المـحراثُ في القِسْمِ الفُـولوكْلوريِّ

والثـورُ مُديـراً للإذاعَـهْ !

     * * * 

قَفْـزَةٌ نَوعيَّـةٌ في الإقتصـادْ

أصبحتْ بَلدتُنا الأولى

بتصديـرِ الجَـرادْ

وبإنتاجِ المجاعـةْ !

 

من جميع ما تقدم يصل الشاعر أحمد مطر إلى حكم يعلنه في مقال ( الموت لنا ) المنشور ضمن أعماله غير الشعرية :

نحن أمّة لا تستحق الحياة.

  تأتي الانقلابات لها بقادة من رحم المجهول فتخرج الأمّة لتهتف وتصفّق، وتذهب الانقلابات المضادة بالمجهولين، فتخرج الأمّة لتهتف وتصفّق للمجهولين الجدد.. وهكذا دواليك، حتى تضجر البنادق، وتسأم الدّبابات، وتملّ البلاغات الأولى، وتبقى الأمّة النشطة وحدها صامدة ضدّ الملل والضجر والسأم. ولفرط إخلاصها للهتاف العتيد، لا تنتبه للموت وهو يلملم وفاتها المعتّقة، فتموت وهي تهتف: يعيش.. يعيش                                  !.
نحن أمّة لا تستحق الحياة. الحياة ليست عملة نقدية صغيرة ترمى للشحّاذين، ولا هي بضاعة رخيصة تباع في سوق السلع المستعملة.
الحياة قيمة كبرى لا يستأهل امتلاكها إلاّ من يستطيع دفع ثمنها.
ومَن لا يملك الكرامة لا يملك ثمن الحياة ولو امتلك أموال قارون.
وحتّى لو ابتاع أحد الكرام المحسنين هذه القيمة بغية توزيعها على المعوزين، لوجه اللّه، فإنها ستركن في حوزة هؤلاء حتى تصدأ، إذ لا يعرفون كيفية تشغيلها، ولا يعرفون ما إذا كانت تصلح للتبريد أم للتدفئة.الحياة خسارة في هؤلاء، لأنّ مَن لا يتقنون استخدام الحطب للطبخ، من العسير عليهم أن يستخدموا شيئاً يسمّى (المايكروويف)، وكلّ ما سيمكنهم فعله عندما يمتلكونه هو أنهم سيباهون أمام الجيران بأنّ لديهم جهاز تلفزيون بلا هوائي!.

نحن أمّة لا تستحق الحياة.

لأنها تحلف بالطلاق على طغاتها بألاّ يموتوا وألاّ يمرضوا وألاّ ينهزموا، لكي لا تقع الطامّة عليها بالاحتلال الأجنبي.
هي أمّة منزلية .. تفلفل على الاحتلال الداخلي، وتنتشي لمن يهتك عرضها إذا كان منها، وتتفجّر احتراماً وتوقيراً لمن يسرق لقمتها الوحيدة من بين أسنانها إذا كان من العائلة، وتفرفح لمن يحبسها في صندوق زبالة ويساقيها العصيّ في مؤخراتها، بشرط أن يكون واحداً من أبنائها البررة!. هي أمّة ترى الاغتصاب الوطني عفّة، والسرقة الوطنية مجرّد اقتباس، والتعذيب الوطني شأن داخلي من العيب أن تشكو منه للغرباء. كلّه عسل.. إلا الاحتلال الأجنبي.

مليون طاغية.. ولا محتّل غريب واحد!.
وتنسى هذه الأمة الممحونة المفلفلة أنّ الطغيان الداخلي كان دائماً البوابة العريضة التي يدخل منها المحتل الخارجي. وتنسى هذه الأمّة المهتوكة العرض ذاتياً أنّ معظم الاحتلالات الأجنبية كانت رحمة من الله على عباده، مقابل نقمة الاستقلال الوطني المستبد.
لأنّ ذلك الاحتلال ينشغل عن النفوس بابتلاع الخيرات، فيما ينهض هذا الاستقلال على ابتلاع الأنفاس والنفوس والخيرات معاً.

     تعمدت أن يكون النص المقتبس طويلاً لكي يتوافر متسع للقارى ليدرك أن ما لدى أحمد مطر ليس سوى فكرة مهيمنة لا يتعداها : (الدكتاتورية ) وإليها وحدها يعزو كل المشكلات التي يعج بها الشرق ، أما ما يتعداها ، أو العوامل – على كثرتها – التي أدت إلى نشوء الدكتاتورية وإستمرارها في هذه البقعة من العالم فأمر لا يتطرق إليه الشاعر .

إن أهم ما يعنيني من النص الآنف الذكر هو قوله : (الحياة قيمة كبرى لا يستأهل امتلاكها إلاّ من يستطيع دفع ثمنها.
ومَن لا يملك الكرامة لا يملك ثمن الحياة ولو امتلك أموال قارون. ) ، هنا أعلق : ماذا فعل أحمد مطر ليؤكد القيمة كبرى للحياة ؟ أين هي قصائده التي تحمل هذا المعنى ؟ أين التغني بالحياة وتمجيد قيمها في شعره؟ أين الأمل في منجزه الإبداعي ؟ أين الإيجابية في رؤيته للعالم ؟ قد يُجاب بأنه عبر عن ذلك بطريقة معكوسة ، فصور الخور والعجز في علم العرب ليظهرهما بكل قبحهما ، ومن ثم تصبح الأرض ممهدة لإنطلاقة جديدة . وقد يجاب بأن إنطلاقة الشاعر كانت في زمن لم يكن فيه متنفس للأمل . وأرد على الجوابين مستشهداً بالشعراء العرب ممن عاصروه ، فهم عاشوا العصر نفسه وصوروا مثالبه بكل ما تحتويه من ظلم وقهر ويأس وفقر وحرمان ، كالسياب والبياتي وأدونيس ومحمود درويش وبلند الحيدري وسواهم لكنهم لم يتوقفوا عند ذلك ، بل أنشدوا للأمل والحب والطبيعة والأطفال والمستقبل ، ونفذوا بشعرهم إلى الاسباب الكامنة وراء الدكتاتورية العربية ، كما توغلوا في النفس الإنسانية ، و أغنوا شعرهم بموضوعات شتى بأساليب فنية متميزة فعبروا بجميع ذلك عن الشأن السياسي بنظرة شاملة فيها عمق الفنان وعبقريته ، وهذا بالتحديد ما يعوز أحمد مطر .

 

لباب الورقة الأخرى

أَعِـدْ عيني لكي أبكـي علـى أرواح أطفـالِكْ !

                            نقد وفق مقاربة جديدة

 

العلاقة الوحيدة التي حكمت شعر أحمد مطر ، تلك التي يعقدها بين (حاكم غاشم ومحكوم مخصي ومستلب) ويصورها من منظور الأخير – وهو منظور التدني والإنحطاط ، هذه العلاقة تجري إستعادتها هنا بكامل إرتكاسها بين طرفين جديدين : الأول هو حاصل جمع الحاكم والمحكوم ؛ أي عالم العرب – فالحياة كما يراها أحمد مطر لا تزيد عن هذين – والآخر هو الولايات المتحدة الأميركية ، ولا يمكن الشاعر بطبيعته إلا أن يسقط على الولايات المتحدة شخصية الطاغية فيما يقف العرب في صف الضحية المضطهَدة ويختار أحمد مطر منظورها – الذي يسمه بميسم الإنحطاط والبكاء وأمور أخرى سناتي إليها – . ويصل مدى مطابقة علاقة الحاكم والمحكوم بعلاقة العرب والولايات المتحدة حداً يضلل القارىء غير المتمرس فيتهيأ له أن أحمد مطر يريد في قصيدته أن يوجه الخطاب إلى طاغية عربي !

قد يستحسن المرء المطابقة بين العلاقتين ، ولاسيما مع مشاعر الكراهية العالية التي يكنها كثير من العرب لحكامهم وللولايات المتحدة ، المقترنة في القصيدة بمشاعر التشفي بنكبة العدو ، ولكن المطابقة تبقى تعسفية في أكثر جوانبها ، وسأمثل لذلك بمثال واحد يكشف أيضاً عن مستوى العجز في رؤية الشاعر أحمد مطر للعالم ؛ وينقض جزءاً أساسياً من القصيدة ، ويتلخص بأن الشاعر لما كان وصل إلى درجة من اليأس من أي أثر للإنسان في تغيير العالم (أي العلاقة الأثيرة لديه ) فإنه لا يتصور من ثم أن تحل النكبة بالآخر إلا بمعزل عن تدخله هو العاجز الذي يكتفي بتلقي الضربات ، وأنطلق الشاعر بهذا التصور وهو ينسخ علاقته الأثيرة بالطرفين الجديدين ، وفاته أن سبب نكبة الولايات المتحدة، في الموضوع الذي اشتغل عليه  (أحداث الحادي عشر من سبتمبر ) هم تسعة عشر عربياً، نعم قد لايكون هؤلاء يعبرون عن مجموع العرب ، ولكن ما حدث يحمل في تضاعيفه كثيراً جداً من جوانب العلاقة المعقدة بين العرب والولايات المتحدة . ومن يتصدى لأحداث الحادي عشر من سبتمبر ولاسيما وهو يتحدث عن علاقة العرب بالولايات المتحدة عليه أن يأخذ في حسبانه هذه الجوانب ، ولكن ذلك ما لا يشغل بال الشاعر الذي يفضل عوضاً من الدخول في إشكال العلاقة العربية الأميركية وتعقدها أن يدخلها بمقاسه الجاهز.

تنطلق القصيدة من شماتة يعبر عنها العربي – كما يصوره أحمد مطر – تعبيراً يضم قدراً لا يستهان به من خباثة الضعيف المقموع ؛ ذلك أن الشماتة من القوي المستبد – كما يصور أحمد مطر الولايات المتحدة–  تظهر على نحو مستتر ، بالبوح بإضطغان طالما عُمل على كتمانه ، بتذكير القوي المترنح من ضربة وجهت له على حين غرة عن ما فعله بالضعفاء الذين داس عليهم . والضعفاء عادة لا يعلنون تشفيهم صراحة خوفاً من الإنتقاد ، أو ربما خشية العواقب بعد استعادة الغريم قوته ، غير أنهم يشمتون على كل حال !

يستهل أحمد مطر قصيدته بأن يسجتدي ( يمثل هو العرب كما يراهم ويمثل المخاطب – الولايات المتحدة – كما يراها أيضاً ) إستجداء رمزياً من القوي إرجاع ممتلكاته المسلوبة إليه لكي يبكي . فعل البكاء هنا له دلالته ، هو لا يقوى إلا على البكاء . البكاء تمثيل ممتاز لفعل المستكين ، هو لا يمد يد المساعدة لأن لا يد له ، كما أن القوي ( الذي يحتفظ بصمته طيلة القصيدة ) حتى وهو في أزمته لا يحتاج إلى معونة ، والسؤال يهدف كما أشرت إلى إظهار الشماتة ليس غير ، وهو مناسبة لتكرار الشكوى كما تجري العادة لدى الضعفاء المقموعين وللتعبير عن السعادة لحال الخصم ، عندما ضعف فضاقت الشقة بينهما . فلا سعادة عند الضعفاء كالمساواة في القدرات بين الناس .(فَحالـي صارَ مِن حالِكْ )؛ فما لم يخر الأقوياء ، ويصبحوا مثلهم فلن يأمنوا شرهم ابداً ( الشر بمقياسهم هم !) .

البكاء المرجو وليس المتحقق يتوجه إلى الأطفال بل ( إلى أرواحهم) ، ولكن أحداث منهاتن لم تقتل الأطفال ، قتلت ثلاثة آلاف موظف ومراجع ( بينهم عرب ) إلا أن أحمد مطر ينظر إلى الحدث كما تحكمه علاقته الأثيرة لديه لا كما حدث بالفعل . إنه أسير إدمان شعور الهوان الذي يتلذذ به صباح مساء . وهو منهمك في إظهاره في كل شعره وفي هذه القصيدة أيضاً . ففيها يفعل كل ما في وسعه ليظهر للآخر كم هو – أي الشاعر بوصفه ممثلاً عن مجموعة بشرية – معذب ومحروم ومظلوم. تقول الحكمة : يحاول بعض الفقراء أن يظهروا للآخرين حرمانهم ومذلتهم وبهذا فقط يكمن فقرهم .

لا يوجد ما يضاهي كثرةً دلالات النكوص و الخور الروحي قصيدة أَعِـدْ عيني لكي أبكـي علـى أرواح أطفـالِكْ ! ويمكن أن يكون ما أوضحناه آنفاً كافياً لتبيان هذه النواحي . وكافياً لأن نقول إن الشاعر بكل ما ضمنه في قصيدته من قيم فاسدة أهان نفسه ومن مثله فيما مجد الآخر الذي سعى إلى إهانته .

فنياً يظهر كل هذا الإضطغان والإرتكاس بفقدان القصيدة لأي مستوى فني يستحق الذكر ، فالشاعر في ظل كل النكوص الذي غار فيه عجز عن إكساب  قصيدته أي ملمح فني ، فالشكل أمام تهافت المضمون ينكمش إلى أقصى الحدود .

القصيدة تخلو من أي مستوى صوتي يمكن أن يحسب للشاعر ، والكاف الساكنة التي إختارها قافية لمعضم أبياتها تتكرر على نحو مضجر ، إن القصيدة تشعرك بملل شديد ، فهي أشبه بنواح الثكالى ، ولاسيما أن البكاء يظل يتردد فيها :

 

   أَعِـدْ عَيْـني ..

لِكَـي ابكـي على أرواحِ أطفـالِكْ .

أتَعْجَـبُ أنّنـي أبكـي ؟!

نَعَـمْ .. أبكـي

لأنّـي لَم أكُـن يَـومـاً

غَليـظَ القلبِ فَـظّاً مِثـلَ أمثـالِكْ !

   والتكرار في القصيدة ربما يشكل سمتها الرئيسة فهي ترديد رتيب للبيت الأول  ( ولا يمكن أن نفهم التكرار في القصيدة إلا تجلياً للخواء ) . والفكرة الواحدة كإظهار تناقض الغريم ( التناقض كما يراه الشاعر ) يجري تكراره بصورة تشعر القارىء أن الشاعر يستخف بذكائه !

لا ينجح الشاعر في تركيب العبارات على نحو مناسب ، فصياغته ركيكة ، تماماَ كمنظوره للعالم من حوله ، وهي صياغة متداولة بصورة أفقدتها نكهة الشعر :

 

وَلم تَفعَـلْ

سِـوى أن تَقلِبَ الدُّنيـا على عَقِـبٍ

وَتُعْقِـبَهـا بتعديـلٍ على رَدّاتِ افعـالِكْ !

 

وبعض تراكيب الشاعر مباشرة ، تصل إلى الخطابية :

 

لَئِـن نَـزَلَتْ عَلَيْـكَ اليـومَ صاعِقَـةٌ

فَقـد عاشتْ جَميـعُ الأرضِ أعوامـاً

وَمـازالـتْ

وَقـد تَبقـى

على أشفارِ زِلزالِكْ !

 

وقوله :

 

بِفَضْـلِكَ أسـفَرَ الإرهـابُ

نَسّـاجاً بِمِنـوالِكْ

وَمُعتاشـاً بأمـوالِكْ

وَمَحْمِيّـاً بأبطالِكْ .

 

أما الصور الشعرية التي بقدر ما تصور وتغني  فإنها تظهر قدرة على الخلق والتفنن فهي شبه معدومة في هذه القصيدة ، وفي جل شعر أحمد مطر . وكيف تظهر في رؤية ضامرة ، تشعر بالإنسحاق والإنكماش؟!

ولو فتشنا عن دلالات شعرية في القصيدة فإننا لن نخرج بطائل . وأنى للرؤية الإنحطاطية أن تظفر بالياقوت والمرجان بلؤلؤ البحر وهي تخاف الشطآن والسواحل ؟! وامثل لذلك بخاتمة القصيدة التي سعى الشاعر إلى أن تكون قوية مؤثرة فقال :

 

وَلَو ذَلَّلتَ ظَهْـرَ الفِيلِ تَذليـلاً

فَـإنَّ بَعـوضَـةً تَكفـي .. لإذلالِـكْ !

 

إن قدرة الشاعر الفنية لم تسعفه سوى أن يستعير هذا  المعنى الفج بنفسه وبموقعه من القصيدة وبصياغته الرديئة .

من جميع ما ذكرته تتضح رؤيتي النقدية التي أوجزها بأنها تلازم الشكل والموضوع بوحدة يستتبع فيها بعضهما بعضاً على نحو يرتفع فيه الشكل بموضوع يزخر بالقيم الإيجابية من الحياة العميقة والأصيلة في محتواها ويهبط بهبوطها ، وبهذه الرؤية كشفنا عن شعر أحمد مطر ممثلاً بقصيدته ( أعد عيني لكي أبكي على أرواح أطفالك ! ) بعد أن سبقنا ذلك بقراءة فنية محضة.

[1] اعتمدت في توثيق المعلومات عن حياة الشاعر أحمد مطر على  ويكيبيديا، الموسوعة الحرة في الشبكة الألكترونية ، لندره ما تصمنته المصادر المتوافرة لدي عن حياته .

عن اثير عادل شواي

شاهد أيضاً

قراءة في رواية “رقص السناجب” لعباس خلف علي

قراءة في رواية “رقص السناجب” لعباس خلف علي بقلم: شميسة غربي/ سيدي بلعباس/ الجزائر “رقص …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *