قراءة لبعض أعمال فن التركييب
Instelation
20/07/2007
كوكب من زجاج و فساتين من اللحم الأحمر الني
تشهد قاعات العروض التشكيلية في العديد من المدن الأوربية بين فترة وأخرى معارض تشكيلية لفنانين تتشكل رؤاهم الفنية على تقديم الغريب واللا مألوف بدأً من طريقة العرض ومرورا بالمواد المستخدمة في صناعة اللوحة, وقد دأبت القاعات الرئيسية للعروض التشكيلية في مدينتي مالمو وغوتنبرغ السويديتين(Malmö konsthall§Götobrg konsthall )على تبني هذا النوع من التجارب الفنية وكان من بينها معرضي للفنانة الكندية يانا ستيرباك و الفنان العراقي حقي جاسم .
وإذا كان هذا النوع من العروض قد بدأه الإنشائيون في مطلع القرن الماضي في حركة فنية ظهرت متزامنة مع الثورة الروسية عام1917, ودعت إلى فن الحياة الجديدة غير المقيد بالكلاسيكيات القديمة وتقاليدها الصارمة وبالتالي لم يكن للون أهمية لديهم فالشكل هو الهدف وهو عنصر التناقض, كما دعت الإنشائية إلى ترك الموضوعية والواقعية إلى الفنون البصرية المتحركة كالسينما والتصوير الفوتوغرافي وهو ما أصطلح عليه حينذاك بالفنون الجديدة, وكان من بين أهم روادها: كاندنسكي وماليفييش وأزنشتاين. ورغم كل الجديد الذي حملته الإنشائية إلا إنها جوبهت بصد عنيف من زعماء الثورة الروسية وبالتحديد لينين الذي قال عنها( لا يمكنني أن أعتبر الأعمال التعبيرية والمستقبلية والتكعيبية وما إلى هناك من مدارس, تعبيرا عاليا من العبقرية الفنية, فأنا لا أفهمها ولا أستمتع بها)(1) كما هاجمها تروتسكي عندما عبر عن رأيه بنصب الأممية الثالثة للفنان والنحات الروسي تتالين بالقول( إننا نريد أن نؤكد على أن الاجتماعات يجب أن لا تعقد في اسطوانة وأن هذه الاسطوانة تدور)(2) وقد أدى ذلك إلى توقفها وهجرة فنانيها وإسدال الستار على واحدة من أهم الحركات الإبداعية في القرن العشرين. وبعد ظهور التفكيكية على يد جاك دريدا ودعوتها إلى إعادة التفكير بكل ما طرح سابقا وكل ما هو سائد اليوم وتصريح فنانيها بتأثرهم الكبير بالإنشائية فقد إعادة قليلا من بهاء هذه الحركة عبر المشاريع والمعارض الجديدة التي حملت جملة من الأفكار غير التقليدية والمتضمنة حلولا إبداعية للعديد من المشكلات المعاصرة بطريقة فنية مدهشة, وهو ما عبر عنه المعرض الذي افتتح عام 1988 في نيويورك وضم سبعة فنانين معماريين غير متفق على ماهية توجههم أعلن أغلبهم تأثرهم بالحركة الإنشائية هم: ( زها حديد, فرانك جيري, برنارد تشومي, بيتر ايزمان, ريم كولهاس, دانيال ليبسكايند, وكوب هيمبلو) وليس غريبا أن يتزامن توقيت هذا المعرض مع ازدياد الطلب على هكذا عروض وتشوق الجمهور لمشاهدة الغريب و اللا مألوف, فقد أقيم معرض أخر في متحف الفن المعاصر في لندن بنفس العام وسبقته بعام واحد تقديم يانا ستيبرباك عملها الفني( الفستان) المنفذ باللحم الأحمر الني والتي دخلت فيه رسميا عالم الفن المعاصر, وأردفته في نفس السنة بعملها الأخر(الموشوم) وهو عبارة عن صورة فوتوغرافية لرجل وشمت رقبته من الخلف بطريقة ترميز البضائع والحاجيات المخصصة للبيع. واستمرت يانا ستيرباك في تقديم أعمال تحمل الكثير من المفاجئة والإثارة والتحفيز للمشاهد. ففي معرضها الذي أقيم في السويد نوعت الفنانة في تناولها للموضوعات واستخدامها للمواد وطريقة العرض وكذلك طريقة المشاهدة الحذرة والخطورة التي تحملها عملية الاقتراب من بعض المعروضات!!
فقريات سامة وسرير الخبز وفستان اللحم:
تتوزع طريقة العرض في هذا المعرض على ثلاثة محاور, الأول يقترب من طريقة العروض المتحفية حيث مربعات الزجاج المحفورة في الحيطان يرافقها مؤثرات صوتية كجزء أساسي في إشراك الحواس الأخرى في عملية التلقي. والمحور الثاني شمل تقديم المعروضات بمصاحبة أفلام الفيديو أو الـ( instelation) أي فن التركيب أو النصب وهو عبارة عن معروضات مجسمة في المعرض لها استخدامات حياتية مقترحة. والمحور الثالث شمل المعروضات ذات التأثير الحسي المتعدد( لمس, شم, بصر, سمع).
ولو تأملنا المحور الأول الذي تضمن مجموعة متنوعة من المعروضات بدأتها بهيكل عظمي لإنسان يذكرك مباشرة بالهياكل العظمية القديمة التي تحتويها متاحف الآثار وكأنها تريد أن تخلق جوا نفسيا لعالمها الغريب الذي تدعوك لدخوله باطمئنان يلامس العواطف المقتربة”أحيانا” من الجنس كعرضها لفراش نوم وأرائك كتبت عليها عبارات مثل( رومانسية الحب) ولا تمهلك كثيرا حتى تصدمك بسلسلة من المفاجئات المتتالية دون أن تعطيك الفرصة للتخلص من أثار أحدها! فهي تقترح في واحدة من هذه المفاجئات تسعة أنماط من الفقريات تأخذ أشكالا صدفية وحلزونية حددت في تعريفها أعمار هذه الفقريات والخطورة التي تحملها وأماكن تواجدها! بطريقة تخالها حقيقية بحيث تلعب الفنانة دور المستكشف الآثاري وليس المبتكر لها, ثم تضع أنواعا من الحشرات الزاحفة مع مؤثراتها الصوتية محاولة زيادة التأثير متعدد الدلالات وإشراك أكثر من حاسة في عملية التلقي, ثم تذهب لصناعة أنياب حيوان الماموث بمادة شريط القياس المستعمل في عملية خياطة الأقمشة, وهي بهذا التنوع في استخدام المواد في صناعة عروضها الفنية وطريقة العرض تحاول تهيأت المتلقي لإطلاق العنان لخياله دون محددات تذكر وبطريقة الصدمة الكهربائية, تلك الطريقة التي ستتوسع بها في عروض محورها الثاني والمعتمد على الاشتغال على المنظومتين السمعية والبصرية وتقدمها بطريقتين:
الأولى تأخذ طريقة العرض التلفزيوني المرافقة لاستخدام (HEAD-PHONE) أو تصوير أفلام خاصة عن استخدام آلات تقترحها هي مثل: آلات ( REMONT CONTROL) وهي عبارة عن جهاز متحرك تقوده امرأة تتحكم به في سيرها وسط ممرات الدوائر أو المكتبات, أو آلة ( (SISYPHUS وهي آلة يتوسطها رجل مفتول العضلات يحاول إيقافها دون جدوى أو آلة عربة الأسلاك الحديدية مع أربطتها المعلقة على الكتف تحاكي فيها صخرة سيزيف التي تجسدها بعمل أخر يضمن حلا مقترحا لمشكلة سيزيف يحمل الكثير من الطرافة, وذلك بوضع حمالتين على أطراف الصخرة لتسهيل حملها!! أو سرير نوم حديدي مثقب تأخذ فيه طريقة الاستلقاء شكلا مغايرة تماما لما هو معروف عن طرق الاستلقاء أو سرير نوم أخر تتكون قاعدته من قطعة خبز كبيرة وهي بهذا السرير تدخل في محورها الثالث المعتمد على تعدي المنظومتين السمعية والمرئية إلى إشراك بقية الحواس فأنت تشم رائحة الخبز وتلمسه في نفس الوقت, وبالتالي فقد اشتركت أربعة حواس في عملية التلقي وكأنها تتفق مع نظرية (أدجار ديل) في تدرج الخبرة وتأكيده على أهم الخبرات الواقعية الشاملة لكل الحواس, ففي عملها (الفستان) والذي دخلت فيه عالم الفن المعاصر بجدارة باستخدامها لحم الثور الني ذو اللون الأحمر, اشتغلت يانا ستير باك على الصدمة المباشرة لمشاهدة اللحم الأحمر والرائحة المنبعثة منه والتي تزداد مع تعدد أيام العرض وتحوله من حالة الليونة إلى حالة اليبوسة, والمفارقة في هذا العمل هي عدم قدرتنا على تقبله أو التئالف معه ولكنه يزيدنا دهشة للفكرة التي يبثها ودلالاتها المتعددة.
وراحت تقدم أعمال أخرى تلعب فيها الحواس الدور الرئيسي في عملية التلقي والتأثير, كعملها(HOT CROWN) وهو عبارة عن عمود طوله(2 متر) يعتليه تاج يتوهج من حين لآخر تصلك حرارته العالية عن بعد يحيلك إلى مقاربته بمنصة الإعدام الكهربائية لحين خفوت التوهج حيث تكتشف أنه تاج ملكي, أو عملها الأخر (الفستان الكهربائي) وهو عبارة عن هيكل مصنوع من شبكة حديدية تلفه أسلاك كهربائية تتوهج مطلقة حرارة عالية, كتبت الفنانة على الجدار القريب من هذا العمل دعوة لمشاركتها إحساسها النفسي والفكري في مواجهة هذا العالم الغريب الذي نعيشه.
وفي ذات الوقت تقدم عملها الأخر (DISSOLUTION AUDITORIUM) أو الكراسي الجليدية المعاكس تماما لعملها( الفستان الكهربائي) وهو عبارة عن مجموعة من الكراسي تتكون مقاعدها أو مساندها من الجليد والذي سيذوب حتما أثناء العرض ليتبدل شكل الكراسي مع حالة الذوبان الطبيعية هذه, وبالتالي فهي ليست كراسي وإنما كائنات تتهشم بفعل قوانين الحياة القاسية, والحقيقة التي نصل إليها بعد مشاهدة هذه الأعمال الفنية هي أن يانا ستيرباك تحاول خلق مواضيع مثيرة ومحفزة وتدعونا كمتلقين إلى الوقوف والتفكير أمام العمل الفني وأحيانا تقودنا لمناقشة العلاقة بين الإنسان والآلات في خضم الصراع الدائر بينهما وهو صراع وجود وكينونة تتهاوى فيه قوى الإنسان الخائرة وسط ضجيج الآلات وزمجرتها, إنها دعوة تحمل بداخلها الكثير من التخفي لأسئلة ما زالت الإجابة عنها مؤجلة إلى أشعار أخر.
أما الفنان حقي جاسم وهو مواليد بغداد 1958, فقد عرف كونه فنانا كرافيكيا, أكمل دراسته الأولية في الفن في يوغسلافيا ثم دراسته العليا( الماجستير) في عام 1990 منتقلا بعد ذلك إلى السويد ومشاركا في عشرات المعارض الأوربية التي توضحها الأنطولوجيا الملحقة بهذا الموضوع, ولو تأملنا أعماله لوجدنا أن الفنان قد غادر منطقة التشخيص المباشر منذ أيام دراسته الأولية منتقلا إلى مناطق التجريد البحتة مبتعدا عن كل أنواع التجريد الشلاكني الذي يحاول بعض الفنانين التشكيليين أن يزاوجوه مع الكلاسيكية للوصول إلى نوع من التقارب الدلالي بين أنتلجسيا مجتمعاتهم والحداثة في الفن, ولكون الفنان مرتبط بأحداث المحيط الحياتي الذي يعيش فيه فهو أكثر البشر تأثرا بما يدور حوله وبالتالي أفضل من يعبر عن تلك الأحداث والذي حدث للفنان حقي جاسم يدخل من هذا الباب فبعد أن التهمت الحرب أحبته وأصدقاءه وألعاب طفولته ومقاعد المدرسة, حتى دورق أسماكه الملونة حطمت زجاجه الشفاف شظية باحثة عن سمكته الذهبية لتحيلها إلى متحف ذكرياته المتخم بالمفقودات, مما أدى إلى نوع من الانفعال الذي أنتج ثيما متجددة ومتعددة تتمحور حولها المعروضات ,ورغم ذلك فأن الكثير من تمثلاته السابقة تظهر في وحدة الشكل والمديات الموزعة في الحركة الخطية أو النقطة المتواصلة أو التراكمات اللونية الفضائية , وفي الأمحاءات والتعرية التآكلية تبين المسار الصوري ومكونات البنية الدلالية السطحية التي تهدف إلى مشروع اللوحة, وإذا كانت البنية السردية القائمة على جمع الملفوظات المتتابعة والموظفة المستندات فيها لتشاكل ألسنيا جملة من الأفعال الهادفة إلى تحقيق مشروع وتكتسي طابعا اقتصاديا يومئ بوجود عمليات كامنة في المستوى العميق بصرف النظر عن مادة التعبير أو المظهر الخارجي الذي يتشكل فيه السرد كما يقول غريماس في نظرية السرد,
فأن لوحات الفنان حقي جاسم عند تحليلها عل المستوى الإشاري للمظهر الخارجي والمحاور التوزيعية على السطح, يتبين تحولها إلى مملكة إشارية في تجسيد الاختزال وفي الشكل الظاهر لبيئة اللوحة السطحية وجلاء المضمون الخفي وهذا ما جعل أعماله نوع من التجريدية التعبيرية التي تحيلك كمشاهد إلى مداليل شخصية كثيرة ربما تكون بعيدة عن مقاصد الفنان, ولعل السر يكمن هنا في عشقه لفن الكرافيك , ففي استخداماته اللونية يشتغل الفنان على المنطقة التكاملية فهو يستخدم اللون البني كمنسق للألوان الأولية الحمراء والزرقاء والصفراء, وإذا ما عرفنا أن الفنانين الكرافيكين عموما يميلون لاستخدامات لونية محددة, فهم يتعاملون مع الألوان الأساسية مع احتمالية بسيطة لاستخدام لون تكاملي أخر كما فعل الفنان هنا, في حين لا يترك المساحة اللونية تسيطر عليه بل يجرئ هذه المساحة إلى مجموعة تكوينات لونية لخلق نوع من الإحساس بالحجم من ناحية وبالمادة الخام من ناحية أخرى , وهذا ما يدفعنا للاعتقاد أن أعمال الفنان الحالية تتموضع بين التجريد والتمثيل العائم في الطبيعة مع تحكم في المنطقة التجريبية التي يواصل الفنان دراسته فيها, فهو يسعى إلى خلق نوع من التأويلات البصرية لشعور أو إحساس لا يمكن التعبير عنه بالكلمات المكتوبة أو هي محاولة للقبض على اللحظة أو الجو أو الإحساس وهذا ما يجعل الفنان التشكيلي يتوسل اللغة البصرية مختلفا عن الشاعر الباحث عن الكلمات, فعملية التعبير عملية حسية بالدرجة الأساس يقودها العقل والإدراك فلا وجود للزمان أو المكان إلا فيهما وبالتالي تتكون عملية الإبداع الفني, وهذا ما نلاحظه في عمله الأخير(Comfort Plant) وهو عنوان معرضه الأخير الذي ضم عملا فنيا واحدا أستخدم الفنان تقنية الـ( instelation) فقد ركب الفنان شكلا مجسما يقترب من أشكال البناء الريفي المفرغ تماما إلا من أعمدته المغلفة بخرائط العالم المختلفة والملونة بينما تفترش أرضيته قطع زجاج بلورية. وإذا كان هذا الـ (الكوكب المريح) الذي بناه الفنان عبر مجموعة الخرائط والأرضية البلورية قاربه شكليا من تصميم البيوت الريفية فأنه يحيلك تماما للخطر المحدق بالعالم اليوم, فالذي يجري في العالم هو من مسؤولية جميع من يسكن عليه كالبيت الواحد تماما وبالتالي فهو يحمل إدانة خفية لكل من يسعى لدمار العالم من أنظمة وأفكار وأشخاص وتعصب ومصادرة وقمع كما أن هذا العالم رقيق جدا كالأرضية البلورية التي افترشت بها البيت أو الكوكب الافتراضي هذا.
أنطولوجيا :
- ولد الفنان حقي جاسم في بغداد 1958.
- تخرج من أكاديمية الفنون الجميلة , بلغراد, يوغسلافيا, 1986 ونال شهادة الماجستير من نفس الجامعة عام 1990 .
- أقام العديد من المعارض الشخصية أثناء دراسته الجامعية.
- أقام منذ عام 1994وحتى عام 2001 ثمانية معارض شخصية في مختلف المدن السويدية.
- شارك في الكثير من المعارض الخارجية في مختلف أنحاء العالم ومنها(يوغسلافيا, أسبانيا, إنكلترا, فرنسا, الدانمارك, النرويج, هنكاريا, اليابان, تونس).
- أقام في عام 1999 معرضا شخصيا في الدنمارك.
- يواصل دراسته للفن في مدينة يوتبوري السويدية فضلا عن مزاولته لمهنة تدريس الفن التشكيلي في المدارس السويدية.
انطولوجيا:
- ولدت الفنانة يانا ستيرباك في براغ عام 1955.
- انتقلت إلى كندا ومنها إلى نيويورك وبرشلونة عام 1968.
- تتنقل حاليا بين مونتريال وبرشلونة.
- أقامت العديد من المعارض التي حازت على الكثير من الاهتمام ومن بينها:
- معرضها في غاليري الفنون الوطني بكندا ـ اوتاوا.
- معرضها في متحف الفن المعاصر ـ شيكاغو.
- معرضها في غاليري Serpentine ـ لندن.