استعادة المنسيات في عوالم افتراضية
د. حسن السوداني
“لا شيء فقير أمام المبدع، كما ليس ثمة أماكن فقيرة، لا دلالة لها، حتى لو كنت في سجن تخنق جدرانه كل ضجيج العالم” ريلكه
يتجه العالم اليوم إلى منطقة الافتراض العلمي, وتطالعنا البحوث والدراسات بما هو جديد فيها وفي المجالات الكثيرة التي باتت تتطلع للانظمام إلى هذه المنطقة السحرية, فمن التعليم إلى الطب والسينما وتكنولوجيا المعلومات إلى مناطق أخرى لم تعد مسألة دخولها إلا وقتية فقط. وإذا كان الافتراض (VIRTUAL ) الذي نتحدث عنه يعني خلق عوالم تقترب من الحقيقة بدرجة غير معقولة مستثمرة حواس الإنسان ومتلاعبة في خلاياه ضاغطة على من تشاء وتاركة من تشاء, ناقلة إياه إلى مناطق تبتعد عن مكانه الحقيقي مسافات ضوئية, كالسينما, لكن البطل فيها هو المشاهد لا الممثل!!. ورغم كل تلك الفتوح العلمية المذهلة في باب الافتراض هذا إلا أن أحد ما لم يشر إلى أصل هذا العالم الافتراضي ولبنته الأولى, وأقصد بذلك الفن التشكيلي, الرائد الأول والمحرك الخفي لهواء عالم السحر الجديد. فالفن عموما والتشكيل منه على وجه الخصوص ما هو إلا افتراض مادي” جمالي” بطريقة ما لهذا العالم بكل حيثياته, المعقول منها وغير المعقول, أنه اقتطاع لقطة أو مشهد حياتي وسبغ عوالم من الوهم عليه يفترضها الفنان منهجاً للخلاص أو حلا سحريا لواقعه المعاش أو القادم, وفي حقيقية الآمر تتحول اللوحات وفقا لهذا الفهم إلى عوالم أفلاطونية مصغرة لا تختلف عن قوانين مدينتها إلى بتجريديتها الثيمية ومنهج مفترضها وقدراته المهارية.
هذه الحقائق تجسدها العديد من التجارب التشكيلية في عالمنا المعاصر وتتجلى بوضوح في أعمال التشكيلي علي النجار كونها طرحت مشروعا فكريا رديفا للموضوعة الجمالية فيها. فالمتتبع لأعماله سيلاحظ ذلك جليا من خلال مشروعة الأول عالم برئ مرورا بصرخاته المتعددة ضد الحرب والدمار ووأد الاهوار وانتهاك حق الكائن في العيش الآمن. وإذا كان من التعذر استنطاق أعمال النجار في دراسة واحدة كونها تمثل مساحات زمنية شاسعة تقترب من النصف قرن, إلا أن تناول واحدة من تجاربه الأخيرة يعد مناسبة ممكنة للحديث عن محاولاته الجادة للخوض في مناطق أخرى عبر مخزونه المعرفي والجمالي, خاصة إذا كانت هذه التجربة تدخل في منطقة فن التركيب Insallation. ولعل المثير في هذه التجربة في إنها تقلب المعادلة الثيمية التي يستند إليها فن التركيب والقائمة على تكاملية العمل الواحد من الناحيتين البنيوية والفكرية بغض النظر عن المساحة الفيزيقية التي يشغلها إلى تشظي العمل الواحد إلى مجموعة متعددة من الأعمال الفنية التركيبة تمثل وحدات مستقلة فنيا كما تمثل في مجموعها عملا تركيبا واحدا من الناحية الثيمية, ثم لتشكل بمجموعها تجربة حياتية خاصة بالفنان وتتعداه إلى عدد غير محدود من التجارب الإنسانية الأخرى. إنها فكرة جشطلتية يمثل فيها الجزء, نفسه ويتكون الكل من مجموعة الأجراء. في هذه الأعمال لا وجود للحجم، فهي تنخرط في الفراغ شاغلة منه جزءاً صغيراً جداً، لا يرى الناظر تجاذباً بين فراغ موجب وفراغ سالب، وليس للتوتر الفراغي آي وجود. كل عمل هو مجموعة من عناصر تفصل بينها مسافات مسطحة، هندسية، مفتوحة ومغلقة، موضوعة بشكل خطوط مستقيمة أو منحنية أو متقطعة. وليس الخط دوماً هندسياً فهو غير منتظم أحيانا أو هو مقعر أو مُنحني، نلاحظ وجود تقاطعات أي عدم اتصال بين العناصر المختلفة، المرتبطة بالهيكل المفتوح بواسطة أجزاء إضافية فنية فحسب فتستند تلك العناصر على بعضها وتتعلق ببعضها الآخر. أما وظيفة هيكل المركّب فهي أن يسود التقاطعات الحاصلة فيما بين العناصر فتشكل كلاً واحداً ويبقى الكل رغم ذلك مفتوحاً تاركاً ممراً حراً للفراغ الذي يصبح مرئياً ما بين منطقة وأخرى أو مساحة صغيرة وأخرى من تلك التي يمكن ملا حضتها على خط مستقيم واحد، وكثيراً ما نجد في هذه الأعمال مستويين اثنين. مستوى “أفقي” ومستوى “عمودي” فالعمل التركيبي لا ينطلق إلا نادراً جدا من مستوى الأرض أو من مستوى القاعدة التي يستند أليها، بل يفضل الفنان نوعاً من التلامس المحسوس أو الخفيف والذي يعطي علوّا للمسرح الذي يتم عليه المشهد ويبقى الاتصال بالأرض على الحد الأدنى فينعدم وزن المركّبة وتستجيب هكذا للفكرة المهمة لدى النجار في هذه الأعمال وهي ” تحرير المركب من وزنه الزمني, من ثقله وهذا الأمر يقودنا للحديث عن علاقة النجار بالزمكانية. فقد شرح باختصار بعضا من أفكاره عنها في مقالة له عن متاهات التشكيل, “لأقل بأن فني زماني وليس مكاني .
بدأ تشكل من تصور لمخلوقات متحاثة متخيلة يسكنها جذر الواقع ويتجاوزه بتفاصيل مما اكتسبناه نحن وبقية الخليقة عبر أزمنة سحيقة, بعضها حمل طابعه السحري والبعض الآخر عقلنته الجيولوجيا والأركولوجيا, ونتاجنا التشكيلي يحمل بعض من بصمات تشكلها أجسامنا( الأعضاء السرية منها) , أنا اخترت الإقامة في هذا الجزء المطمور, ربما أنه تلبسني طويلا لتقلبات زمني الذي حمّلني تقلبات في الطباع والنتاج. وباختفاء مفرداتي التشكيلية السابقة أحيانا ولولوجي عالم التجريد مجددا في بعض متن أعمالي حسبتني تجاوزت مدلولات الزمانية, وكانت المفاجئة بعد تأمل يسير أن أجد أنني لا أزال أخضع لمساري الزمني في متاهات زمنية متشعبة” وتتجسد هذه التصورات” الافتراضات” في العديد من أعمال الفنان في مجموعته التركيبية هذه التي استثمرت بشكل فعال الكائنات البريئة للفنان في أعماله السابقة بطريقة مغايرة وافتراضية أوصلت هذه الكائنات إلى منطقة الألم الناتج عن مرض عضال يستدعي علاجات فورية, لتتحول هذه العلاجات إلى مجموعة من الأسئلة الافتراضية أيضا. يستخدم الفنان في بعض هذه الأعمال الضماد الطبي” الشاش” كمادة أساسية في تشكيل الكائن والتي ستتحول في عدد منها إلى كائنات مغرقة باللون الأحمر القاني أو الشفاف في أحيان أخرى كدلالات مباشرة لحجم المفقودات العضوية من أجسادها الغير قابلة للمزيد من الفقدان. وهذه الفكرة تتجلى بوضوح في العمل الرئيسي في المجموعة والمتمثل بالمركّب المكون من سرير حقيقي يتوسده إنسان “افتراضي” اخترقه أنبوب بلاستيكي يتصل بكيس طبي فارغ ملقى على الأرض, ليحيلك كمشاهد إلى استقبالات متعددة لا تخرج أبدا من منطقة التعاطف المقترن بالدهشة لتلاشي هذا الإنسان وتحوله إلى خطوط مندثرة هي الأخرى. كما تظهر مرة أخرى في مركب أخر تكون مادته الرئيسية هذه المرة “القفاز” الطبي المنقوع بالدم والذي يشير في ناحية أخرى إلى يد مطوعة أو بقايا فقدانات أخرى استخرجت من كائن مستلب أخر. وإذا عدنا مرة أخرى لنسأل هل هناك حدودا ما للمركّب؟ فذلك من الصعوبة بمكان حيث انك لا تستطيع آن تضع حدودا غير التي تفرضه عليك المخيلة, فهو يترك المجال متسعا دون أن يضع أي إطار غير الإطار المعرفي الذي يقودك أليه بلطف واضح.
في عدد أ خر من المعروضات ثمة درجه من الاستذكار الغني بالخيال فلا حاجه فعلية للدلالة المادية, فالوجوه هنا تقع خارج التجربة الفيزيائية العامة, ومع هذا فأنها تبدو مألوفة بشكل كبير, فهي تشبه أرواح فاقدة الأجساد لأناس عرفهم المرء وخذلهم , ربما أهلنا هناك حيث تركناهم دون وداع, أو أصدقاء الطفولة. كما يغلب استخدام اللونين الأزرق والأحمر بدرجاتهما المتعددة في العديد من المعروضات , تدرجات هذين اللونين تحيلك إلى نوع من الصخب الداخلي والإحساس بثقل الموت, وبعض مناطق الحلم الكابوسية. تلك الأجواء التي ظهرت تمثلاتها في لوحة تركيبة تظم بورتريه للنجار داخل بقعة لونية زرقاء داكنة يحيطها اللون الأحمر مع تكوين جانبي يحتوي على اثنتا عشرة نقطة حمراء تتشظى دلالاتها بين أرقام النرد والبعد الميثولوجي لهذا العدد, تطرحها عليك عيون الفنان بطرقة الأسئلة المفتوحة, حتى المدينة الافتراضية لدى النجار هي مدينه تخرج من بعدها الفيزيقي لتبحث عن متنفس لها أو هواء نقي تستنشقه بحريه ما. هذه المنسيات يستعيدها الفنان علي النجار ويعيد لها الكثير من الاعتبار حتى ولو كان ذلك في مناطق افتراضية آمنة وسط عالم ضاج بصخب الحقائق غير المرغوب فيها.