الرئيسية / دراسات / لارا ..رائحة العسل و… الحرب

لارا ..رائحة العسل و… الحرب

لارا … رائحة العسل و .. الحرب

 

دراسة فيلولوجية لقصة لارا زهرة البراري لإبراهيم أحمد
د.حسن السوداني

 

هل يمكن الكشف عن الوضع النفسي أو الاجتماعي أو السياسي لكاتب النص من خلال دراسة وتحليل كيفية معالجته للنص الذي كتبه ؟ هذا ما يفترضه سبتزر ومنهجه .
ولعل الذي دفعني لدراسة قصة إبراهيم أحمد ( لارا زهرة البراري ) وفقا لهذا المنهج في التحليل الأسلوبي أنها تأخذك مسبقا من خلال عنوانها إلى دائرة الذائقة الشخصية , ولكون هذه الإلية مسندة بعمليات الحدس الخاص للمتلقي وهو يبنى عادة بتجارب الإنسان الحياتية بطرفيها الواقعي أو الميتافيزيقي , وهو أمر يصعب حدوثه في أجناس بشرية مختلفة الوقائع أو اللغات أو أسلوب الحياة المعاش , فكيف استطاع الكاتب أن ينفد إلى هذه المنطقة الحساسة من العقل ؟ وكيف نستطيع نحن من النفوذ إلى عقل الكاتب ؟ ربما يقودنا التحليل إلى معرفة الإجابة عن هذين السؤالين .

فـ ( لارا ) هو أسم لبطلة القصة الفتاة الجميلة التي إلتقاها الصحفي ( علي ) صدفة أثناء تغطيته لموضوع انتهاء الحرب في شمال العراق وعودة الحياة إلى مجراها الطبيعي , فماذا يحدث بعد ذلك ؟ لو وجهنا هذا السؤال إلى جمهرة من القراء فكيف ستبدو الإجابات ؟ حتما ستكون معطيات السؤال أحد أركان الإجابة المحتملة وهذه المعطيات هي : ( صحفي أسمه علي , لارا فتاة جميلة يدل أسمها على كونها مسيحية أو كردية , انتهاء حرب , شمال العراق ) هذه المعطيات ستترك الباب مفتوحا أمام حدس القارئ ليملأه بطريقته الخاصة وتجاربه المفترضة وإذا وصلنا إلى هذه النقطة فإننا دخلنا في دائرة سبتزر الفيلولوجية والتي تعتمد التذوق الشخصي في تحديد نظام التحليل ومن ثم تأمل النص للوصول إلى نقطة ما تلفت نظره ومن هنا تبدأ عملية ملئ الفجوات الحدسية للنص بخزين الحدس الشخصي للقارئ , وإذا عدنا إلى متن الحكاية فإننا نجد أن الكاتب تقاسمته ثنائية الحب والحرب بطريقة لافتة للنظر عبر عنها بكم من المفردات الدالة على كل منهما فهو يستخدم مفردات الحب أولا ويكرر كلمات ثلاثة عشر مرة قبل أن يذكر كلمة الحرب ( القلوب الظامئة , محببة , لسع قلبي , شجن , لحبيبها , حبيبي , تجافينا الأيام , الخصام العابر , نغمة الأمل , الفرح والحبور , وردة حمراء , الحب الآسر , تجربة عاطفية ) ليبدأ هنا بذكر كلمات الحرب متزامنة نصيا مع كلمات الحب ( كانت الحرب , معزولين ومطوقين بالجيوش , كوابيس الحرب والدمار والعذاب , الأرض المحروقة , آثار خطى الموت والأقدار الغاشمة , أقتفي مسيرة الموت , أحالتها الحروب إلى مغاور مهجورة , سنوات القتال الطويلة , ماسورات البنادق , خراطيش الرصاص , حرب العصابات , خوذة , جندي قتيل , هارب من الحرب ) وتستمر هذه الثنائية دون انقطاع حتى نهاية القصة ليضعنا الكاتب دونما مباشرة في دائرة الحياة والموت وبالتالي فأن قصة الحب التي ستنعقد بين هذا الصحفي ذو التوجهات اليسارية وهذه الفتاة بكل ما تحمله من أرث أهلها السلفي من العادات والقيم التي لا تضع العواطف الإنسانية في قائمتها مما يجعلهما داخل دائرة من حرب أخرى لا تقل نتائجها شأوا عن نتائج الحروب العسكرية . ووفقا لمنهج سبتزر فإن الخطوة الأولى ( لفت الانتباه ) لا تستند إلى منهج معين بل تعتمد على قدرة المتلقي وموهبته وما يملكه من خبرة معرفية وبالتالي فهي خطوة جشطلتية تعتمد كشف المثيرات داخل النص بغية بلورة إجابات لها , والمتأمل متن النص سيجد أن الكاتب وضع من المثيرات ما يحفز القارئ لعشرات الاستجابات ومن أمثلتها الكلمات الخاصة بالحب أو الحرب وبالتالي فهو يقودنا للخطوة التالية والتي يطلق عليها سبتزر بالخطوة التفسيرية التي تنأى عن التذوق الشخصي وتستند إلى نوع من الأختبارية لمجريات متن النص وهي خطوة الانتقال من سطح النص إلى مركزه للوصول إلى الأفكار المتشظية من الفكرة الأساسية التي بدت لنا لأول وهلة وتكشف وفقا لرأي سبتزر إلى تحليل لوضع المؤلف النفسي وظروفه على اعتبار أن ( حركة الانتقال من الوقائع اللسانية إلى الحالات النفسية أو الانتقال من السطح إلى العمق لا يتم إلا بواسطة فرضية قوامها الحدس ) (1) . وإذا أردنا أن نعتمد خطوات التحليل الأسلوبي التي أعتمدها سبتزر وهي :

* معالجة النص تكشف عن شخصية مؤلفه .
* الأسلوب انعطاف شخصي عن الاستعمال المألوف للغة .
* فكر الكاتب لحمة في تماسك النص .
* التعاطف مع النص ضروري للدخول إلى عالمه الحميم . (2)

فأن نص ( لارا زهرة البراري ) يكشف الكثير من شخصية مؤلفه ووضعه السياسي أو الحياتي فنراه يقول مثلا في رده على إمتيس زوجة نبوخذ نصر ( جنائن معلقة دفعة واحدة ؟ أنا الذي لا أستطيع أن أبني لأخوتي في الفلوجة بيتهم الآيل للسقوط ) وحقيقة الأمر أن الكاتب كان يسكن في تلك المناطق أبان وجوده في العراق فضلا عن الوقائع التالية : عمله كصحفي في بغداد السبعينيات ( كنت من بين مجموعة من الصحفيين من جرائد ومجلات مختلفة تقرر إيفادنا إلى كردستان ) و ( في بغداد أتلقى المزيد من الصدمات : فالتحقيق الصحفي والمقالات التي كتبتها تلقى من رئيس التحرير شطوبات قاسية بقلمه الأخضر ) ثم وضعه كيساري معروف تكشف عنه العديد من الجمل داخل المتن مثلا ( كنت آنذاك في الثالثة والعشرين من العمر . أنهيت دراستي في كلية الآداب وحصلت على عمل في مجلة حكومية بجهدي وجدارتي كما قالوا هم أنفسهم ) وفي موضع آخر ( هكذا قالوا , وقعوا بذلك عهدا , وأطلقوا المسيرات والمهرجانات ) وهي تلميحات تصل إلى درجة التصريح بالموقف المناوئ للسلطة من خلال ؛ استخدام ضمير المخاطب ( هم ) بأفعال ( قالوا , وقعوا , أطلقوا ) وفي إشارة أخرى يقول : ( لا أدري لقد شغلونا أيضا بحروبهم وغزواتهم وحفر صورهم وأسمائهم على الجدران ) وهي إشارة لا تحتاج للكثير من التأويل لكشف مغزاها , لكن الكاتب يذهب إلى الكشف المباشر في نهاية القصة عن أسباب خروجه من العراق والمضايقات التي تعرض لها داخل الوطن فيقول : ( عصفت بحياتي بعدها شئون وشجون تجاذبات السياسة التي حاولت عبثا الفرار منها …. ووجدتني أفر إلى الخارج لأنجو بجلدي ) وإذا كان فكر الكاتب لحمة في تماسك النص وفقا لمبادئ سبتزر فأن فكر إبراهيم أحمد اليساري كان يلوح في أفق الثيمة الأساسية للقصة وبدأت من اختياره فكرة انتهاء الحرب في شمال العراق وهي الحرب المرفوضة من اغلب أبنائه ومن ثم الدعوة للسلام وهي جزء خفي من عملية التعاطف مع النص فمن غير المعقول افتراض وجود من يحب الحرب إلا من كان يحمل مرضا عقليا وهو ما نستبعده في الدراسات الموضوعية وبالتالي فقد أقترب الكاتب كثيرا من المبدأ السبتزري القائل ( التعاطف مع النص ضروري للدخول في عالمه الحميم ) ولو أجرينا مسحا إحصائيا للمفردات التي استخدمها الكاتب في التعبير عن السلام والحب لوجدناها تتعدى الخمسين مفردة قابلتها الحرب كثنائية مشروطة بخمس وثلاثين مرة, وبالتالي هناك تفوق عددي باستخدام مفردات السلام والحب وإذا كانت هذه مقصودة فإنها تلعب دورا علميا في الناحية التكرارية وهي ظاهرة علمية تزيد من ترسيخ المعلومات في ذهن القارئ , وإذا لم تكن مقصودة فهي تكشف أيضا عن الأفكار اللاشعورية للكاتب التي تدعوا للحب والسلام وهذا ما يحسب له تماما . لارا زهرة البراري قصة عراقية الوضع والجذور تكشف الكثير من جماليات موطنها وأفكار الكاتب .
هوامش :

1/ د. حسن ناظم ( أسلوبية ليو سبتزر .. نظرية الأدب بين التذوق الشخصي ومقاربات النص) جريدة الزمان العدد 944 , 16 حزيران 2001 .

2/ المصدر نفسه .

عن د.حسن السوداني

شاهد أيضاً

قراءة في رواية “رقص السناجب” لعباس خلف علي

قراءة في رواية “رقص السناجب” لعباس خلف علي بقلم: شميسة غربي/ سيدي بلعباس/ الجزائر “رقص …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *