المعالم الفنية الأساسية للحداثة في الرواية العراقية
مفارقات الحداثة في الرواية العراقية
محاولة إستقرائية
أثير عادل شواي
كانون الثاني 2007
“Welche Unterschied bleibt zwischen einem Überzeugten und einem Belogenen? Keiner, wenn er gut belogen ist.”
Dr. Friedrich Nietzsche
المحتوى
تمهيد
|
4 |
المفارقات
|
6 |
المفارقة التأريخية
|
5 |
المفارقة النقدية
|
10 |
المفارقة الفنية
|
12 |
الخاتمة
|
16 |
المصادر والمراجع
|
17 |
تمهيد
أحاول في ما سيأتي من هذا البحث الموجز تسليط الضوء على علاقة الرواية العراقية بالحداثة بوصفها مجموعة الطرائق الفنية التي ظهرت في مرحلة تأريخية محددة ، وإيضاح أبرز المعالم التي نتجت عن هذه العلاقة، فضلاً عن أسبابها .
وكان لا بد – لمعرفة أكثر إتساعاً بهذا الموضوع – من الإستناد إستناداً كبيراً إلى ما بعد الحداثة – وهي التوجة الفني الذي أعقب الحداثة – لعقد المقارنات الضرورية، ولإيضاح أكبر لطبيعة علاقة الرواية العراقية بالمدارس والتوجهات الفنية الحديثة التي يشهدها العالـم.
طبيعة البحث ونتائجه صادمان ، وهما يرسمان صورة قاتمة لا يُفضل تصديقها لما هو عليه حال الأدب والنقد في العراق منذ نصف قرن، ولكن ما يذهب إليه البحث يأتي متوافقاً مع مجمل الدراسات والبحوث الجادة في عدد غير قليل من المجالات ؛ إذ جرى التأكيد في أكثرها على مدى إتساع الهوة المعرفية والحضارية بيننا والعالم ، ولاسيما الغربي منه . وإذ يؤكد البحث هذا الأمر فإنه يقوم في هذا المجال بكشف النقاب على جانب من علاقة الحداثة بالرواية العراقية لم يتطرق إليها من قبل ، على الرغم من أهميتها ووضوحها !
وعلى الرغم مما في هذا الإستقراء من فقرات انطبع عدد منها بتبسيط مخل ، وحاجته إلى عينات أكثر للتدليل على مجموعة من الآراء حالت من دونها ضرورة إقتضاب البحث ، وحاجة بعض جوانبه إلى الإنضاج فإني أزعم أنه ينطوي على منطلقات لبحوث مهمة في الحقل الذي اشتغل عليه .
المفارقات
انطلقت الرواية العراقية الفنية في ستينيات القرن الماضي على يد كل من فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان ، مع خلاف حول من منهما صاحب الريادة الأولى في هذا المجال[1] ؛ الإ أن ما لا خلاف حوله أن هذين الروائيين ومن تبعهما من كتاب الرواية العراقية في الستينيات إلى الآن – بإستثناء عدد قليل جداً من الروائيين والروائيات – اعتمدوا بصورة مطلقة على رواية الحداثة الغربية ، أو(الرواية ما بعد الواقعية 1890-1940) وفق البيريس [2] في كتابة رواياتهم مقلدين الإتجاهات الفنية ، والطرائق الفنية لكتابها[3]، مع التأكيد أن هذا التقليد لم يكن مقتصراً على التأثر برواية الحداثة حسب ، بل – وبشكل نسبي – بالمناخ العام الذي ولدت فيه متضمناً عدداً من التيارات السياسية والفكرية والثقافية والإجتماعية ، بقدر ما كانت تسمح به الظروف العامة والخاصة لهذا الروائي أو ذاك.
ما تقدم يضعنا أمام عدد من المفارقات في علاقة الرواية العراقية بالحداثة وسأحاول هنا أن أجمل ذلك في المفارقات الثلاث المهمة الآتية، أملاً أن تكشف هذه المفارقات عن أهم معالم الحداثة في الرواية العراقية.
1- المفارقة التأريخية :
تتلخص المفارقة التأريخية بأن الرواية العراقية تأسست على رواية الحداثة في وقت كانت فيه الأخيرة قد توقفت في الغرب بوصفها توجهاً عاماً للكتابة الروائية[4] لتحل محلها رواية ما بعد الحداثة . وما زاد من عمق المفارقة أن الرواية العراقية استمرت بإنتهاج الحداثة إطاراً فنياً لها حتى اليوم – مع استثناء محدود للغاية لم يظهر إلا في السنوات العشر الماضية بروايات لا تتجاوز أصابع اليدين – في حين كانت الرواية العالمية قد تجاوزت الحداثة . ولنا هنا أن نتصور أن المنجز الروائي العراقي كتب فنياً من بدئه إلى الآن أي على مدار الأربعين سنة الفائتة بمعزل عن السياق الفني العالمي لكتابة الرواية ! ليست هذه المفارقة الأولى من نوعها في علاقة العراق خاصة والوطن العربي عامة بمواكبة التطورات التي يشهدها العالم ، فما يتضمنه البون بين الجانبين من فارق زمني كبير يكاد يكون ظاهرة عامة يمكن أن نراها مثلاً في تأثر العرب بالرومانسية وأقطابها بعد أن طوت أوربا صفحتها الرومانتيكية منذ أكثر من نصف قرن ! ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذه المفارقة تتأسس على مفارقة تأريخية أخرى على صعيد الإتجهات الفكرية بيننا والغرب ( فالفكر الأوروبي يشكل منطقة يترعرع فيها منطق وفكر ما بعد الحداثة، أما نحن فما زلنا نجوب مخفقين في دائرة الحداثة بمفهومها التنويري المرتبط بفكرة التقدم فقط. وحتى التقدم هنا لا يأخذ معناه النقدي بل صيغته الاقتصادية الإنتاجية البحتة وأحيانا صورته المظهرية، وهو تقدم بائس وحداثة مشوهة )[5] .
إن ضعف الترجمة إلى العربية ، وقلة قنوات التواصل مع العالم ، وإنكماش الثقافة العربية ولا سيما العراقية ، وقلة الإقبال على القراءة ، وغياب المؤسسات الثقافية والإعلامية، وندرة الروائيين العراقيين ولاسيما الجادين منهم الذين يحاولون مواكبة العالم من حولهم ، وإضطراب الوضع السياسي العراقي ، جميعها عوامل يمكن أن نرجع إليها المفارقة التأريخية للرواية العراقية مع رواية الحداثة . وهنا علينا أن نلتفت إلى أن هناك روائيين عراقيين عاشوا جل حياتهم الإبداعية خارج العراق ، وفي أوربا تحديداً لكن ذلك لم يجعلهم بمنأى عن هذه المفارقة، بسبب قلة موهبتهم بشكل عام ، كما هو الحال على سبيل المثال مع شاكر نوري ، وهو روائي عراقي يعيش في فرنسا[6]، أو قد يكونوا ذوي موهبة كغائب طعمة فرمان إلا أنهم لأسباب شخصية ولظروف الإغتراب ظلوا محافظين على خلفيتهم وأدواتهم الفنية التي تكونت معهم أساساً في العراق ، ولم يستطيعوا الإضافة إليها بعد ذلك. ومما يجدر ذكره هنا أننا نستبعد أن يكون ضمن أسباب هذه المفارقة استسهال الروائيين العراقيين للكتابة وفق طرائق رواية الحداثة ؛ ذلك أن المنجز الروائي العراقي في قسم كبير منه يذهب بالباحث إلى الإعتقاد بأن تقنيات وطرائق رواية الحداثة كالمونولوج بأنواعه، وتيار الوعي، والتداعي ، وسواها ظلت وما تزال عصية على كثير من الروائيين العراقيين إن لم أقل سوادهم الأعظم . وإننا نجد روائيين طالما تعثروا بالتقنيات الفنية لرواية الحداثة كالروائي عبد الخالق الركابي سجلوا تطوراً لافتاً في مسارهم الروائي الفني عندما كتبوا معتمدين طرائق ما بعد الحداثة ، كما هو الحال في رواية الركابي (سابع أيام الخلق ) (1996) وعادوا – كما حدث مع الركابي – إلى مستواهم السابق عندما رجعوا إلى الكتابة بطريقة رواية الحداثة[7]. ومن الصعب في الواقع الآن معرفة أسباب إرتفاع المستوى الفني لروايات ما بعد الحداثة العراقية نظراً لقلتها، إلا أنه يمكن القول – وفي حال كالتي تعرضنا لها عند الركابي – إن تقنيات ما بعد الحداثة التي لا تنطوي على تعقيدات إجرائية كانت أسهل على الروائي العراقي الذي ظل عاجزاً على السيطرة على تقنيات رواية الحداثة ذات التعقيد غير القليل بالنسبة إليه . ولا سيما أنها تتطلب مراناً ، وصبراً، وموهبةً، وإطلاعاً واسعاً على اتجاهاتها المختلفة . ليتسن من ثم كتابة رواية على كاتبها أن يحجب تدخله المباشر فيها لتبدو كأنها تروي نفسها بنفسها ، مستخدماً تقنيات مختلفة لسرد روايته. من المؤكد أن ما ذكرته لا يعني أن كتابة الرواية وفقاً لما بعد الحداثة لا يستتبع بذل الجهد والحاجة إلى الموهبة ، وإنما قصدت أنه لا يستلزم ما تقتضيه كتابة رواية الحداثة ، وقد كان لهذا الفارق بين الأثنين أن يلقي بظلاله إيجاباً على الرواية العراقية التي عجز كثير من كتابها على التمكن من تقنيات رواية الحداثة كما أشرت .
العودة إلى الكتابة باسلوب رواية الحداثة بعد نجاح تجربة تجاوزها بكتابة رواية على طريقة ما بعد الحداثة – وهو ما حدث مع الركابي كما أسلفنا قبل قليل – تقودنا إلى رسم علامات استفهام حول مدى قدرة الروائيين العراقيين على فهم أبعاد ما يقومون به من تجريب على الروايات العالمية . وأنا هنا أشك في أن الركابي مثلاً وهو يقلد التركيب الفني لروايات ما بعد الحداثة في كتابته روايته (سابع أيام الخلق ) كان يدرك أنه يتحرك في إطار غير إطار رواية الحداثة الذي ظل يشتغل في حيزه طوال عمله الروائي .
إن غياب الفهم لطبيعة المتغير في الرواية في إنتقالها من الحداثة إلى ما بعدها هي ما تفسر لماذا لم يتعاط الروائيون العراقيون على نحو واع مع روايات ما بعد الحداثة العالمية التي أخذت حظاً من الترجمة إلى العربية منذ ثمانينيات القرن المنصرم[8] ، فظلوا على مسافة منها ، أو أنهم قلدوها تقليداً حرفياً [9] ولم يكونوا على درجة كافية من الوعي بالأرضية النظرية والتأريخية التي استندت إليها بإستنثناء بعض الروائيين[10] .
من جميع ما تقدم يتبين لنا أن الرواية العراقية كانت منقطعة عن مسار الرواية العالمية، بصورة شبه كاملة ، ونشأت على رواية الحداثة التي كانت انتهت تأريخياً، وظلت وفية لإنموذجها حتى اليوم، مع وجود بعض الإستثناءات القليلة في السنوات العشر الأخيرة . وهي استثناءات من القلة بحيث لا تؤثر في الملامح الأساسية للرواية العراقية .
2 – المفارقة النقدية :
على نحو ما أشرنا من غياب لفهم معمق لرواية ما بعد الحداثة لدى معظم الروائيين العراقيين ، نجد هذا الغياب متحققاً عند النقاد العراقيين ؛ ويمكن أن نرى ذلك بوضوح في أمرين أساسيين :
الأول : ما نراه في الساحة النقدية العراقية من قلة الدراسات والمقالات والترجمات التي تتناول رواية ما بعد الحداثة بالدرس والتحليل مما من شأنه أن يفتح الباب نحو التعرف على هذه الرواية بجوانبها المختلفة .
الآخر : ندرة الحديث عن رواية ما بعد الحداثة في المقالات التي تتناول روايات كتبت على منوال هذه الرواية، مما يكشف عن قصور معرفة كثير من النقاد العراقيين برواية ما بعد الحداثة ، ونهجها الفني ؛ إن لم نقل إنهم لم يسمعوا بها أبداً ، كما هو الحال مع الدكتور عبد الإله أحمد عندما تعرض بالدراسة النقدية لرواية (سابع أيام الخلق ) فتعرض لبعض جوانبها الفنية من دون أن يلتفت إلى أنها استندت إلى رواية ما بعد الحداثة بل إن قارىء مقال الدكتور عبد الإله أحمد يجد فيه إخضاع رواية ( سابع أيام الخلق ) إلى مقاسات روايات الحداثة ، وهذا ما لا يستقيم منطقياً[11].
إن المنجز النقدي العراقي في اشتغاله على رواية الحداثة أو في تناوله لروايات ما بعد الحداثة قليلة العدد كان بعيداً كل البعد عن التطرق لرواية ما بعد الحداثة ، الأمر الذي فاقم من عزلة الرواية العراقية عن الحراك الروائي العالمي ، وأدى – لدى التعرض لرواية ما بعد الحداثة كما رأينا ذلك مع الدكتور عبد الإله أحمد – إلى الحد من إمكانية الدفع بإتجاه هذه الرواية ، عندما ينقدها وفق الأسس نفسها لرواية الحداثة وهو ما من شأنه أن ينسف هذه الرواية من أساسها .
ومثلما لم يكن للروائيين العراقيين المغتربين أثر في الإفادة من قربهم المكاني من موطن هذا التوجه الجديد في الكتابة الروائية ، نجد أن النقاد العراقيين الذين عاشوا في عواصم الغرب لم يتفاعلوا بأي شكل من الأشكال مع هذا التوجه ، وقد أجازف وأقول إنهم ربما لم يسمعوا به . ولعل ذلك يجعلنا نستغرب مرتين بالقياس مع نظرائهم الروائيين. فنحن نفترض أن ملكتهم النقدية أكثر تطوراً من الروائيين بصفة عامة من جهة ، وهم من جهة أخرى أو قسم منهم قصدوا الغرب في بعثات دراسية لدراسة النقد الروائي و القصصي . ولعل السبب في قصورهم عن وعي ما يجري حولهم في الغرب سواء في الساحة الروائية أم النقدية هو إنشغالهم بموضوعات محددة درسوها وانحصرت بعقد المقارنات بين الأدب العربي والغربي وأثر بعضهما ببعض ، علماً بأن بعض هذه الدراسات تناول الأثر الروائي الغربي بالروايات العراقية، لكنه لم يشر حتى إلى أن هذا الأثر هو أثر حداثي[12].
وهكذا وقف الناقد العراقي سداً مضافاً أمام التفاعل الروائي بين الرواية العراقية ومثيلتها العالمية بدلاً من أن يكون جسراً لهذا التفاعل ، من خلال التعريف برواية ما بعد الحداثة ، وتقديمها للروائيين والقراء بوصفها الإتجاه الجديد للكتابة الروائية في العالم .
3 – المفارقة الفنية :
في هذا المبحث سيتضح لنا على نحو واضح جميع ما تقدم في المبحثين السابقين من مفارقات الحداثة في الرواية العراقية بالنظر إليها بصورة تأخذ بالحسبان التطور الذي عرفته الرواية العالمية في طورها الجديـد (رواية ما بعد الحداثة ) حيث سنعالج هنا الموضوع من وجهة النظر الفنية ، وبعبارة أكثر وضوحاً : مدى التباين بين الطريقة الفنية التي سار عليها الروائيون العراقيون ضمن رواية الحداثة – مع التأكيد على إختلافهم الكبير في التناول الفني لموضوعاتهم المتباينة نسبياً – والطرائق الفنية التي تنطوي عليها رواية ما بعد الحداثة – من دون أن نخوض في الحديث فيها لذاتها بطبيعة الحال – علماً بأننا سنراعي في جميع ذلك أمراً مهماً أكدناه في مهاد البحث ، وهو أن سعينا سينصب بصورة أساسية على معرفة ما وراء الظاهرة المعنية من أسباب وما قادت إليه من نتائج .
أستهل المسائل التي أود الإشارة اليها في هذا المبحث بأمر سبق أن تعرضت إليه في ما تقدم على نحو خاطف وهو أن الطرائق الفنية لرواية الحداثة لم تكن الطرائق السهلة التناول على الروائيين العراقيـين، ومرد ذلك عائد وفق قناعتي إلى ما تتطلبه هذه الطرائق من مستلزمات فنية ونفسية وثقافية وإجتماعية لم تكن متوافرة للكاتب الروائي العراقي ، وأقلها – ونحن نمثل لها هنا – بمستوى من الحذق والمهارة الفنيين اللذين يستطيع الروائي بهما – وبأدوات ومتطلبات أخرى كذلك – أن يسرد روايته سرداً تظهر فيه الأحداث بصورة تبدو معها كأنها تظهر نفسها بنفسها من دون وسيط ، وأن يحاذر من أن تسرد الرواية بشكل يعتمد على سارد يقوم بمهمة سرد الأحداث . وهذه هي النظرية الأنكلوسكسونية في الرواية التي صوب لها النقد البنيوي نقداً يستند إلى أسس قوية ويصب في صميم هذه النظرية .
إن هذا المطلب الأساس بالعمل على جعل الرواية تروي أحداثها من تلقاء نفسها وتجنب إستخدام وسيط في سرد هذه الأحداث، مع ما يشتمل عليه هذا المطلب من إستخدام تقنيات وأدوات فنية بصيغ وأشكال متنوعة كان – كما يكشف عنه معظم المنجز الروائي العراقي وليس جميعه – متعذراً على الروائي العراقي الذي ظلت أدواته الفنية محدودة وملكته هشة وتقنياته غير مكتملة إن لم نقل إنها كانت على الدوام ساذجة ومهلهة .
إن استعراضاً سريعاً للأسباب التي أطرت معظم المنجز الروائي العراقي بما أشرت إليه ستضع ضعف ثقافة الروائيين العراقيين ومحدودية قراءتهم في أول القائمة ليعقبها ندرة الظروف المؤاتية لنشوء المناخ الملائم الذي يحتضن روائيين يستطيعون التفاعل مع انفسهم وبيئتهم الثقافية وشرائحهم الإجتماعية وغيرها من الشرائح ومع العالم من حولهم ليرشح عن ذلك منجز روائي ناضج ويحمل سمات عصره بكل تعقيداتها وإشكالياتها ، وقبل هذا وذاك يكون بمستوى فني يتسم بالجودة والقيمة الفنية . إن الجو السياسي والإجتماعي شديد الإضطراب في العراق منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة إلى وقت كتابة هذا البحث جعل من المتعذر بل المستحيل توافر مثل هذا المناخ ؛ ﻓ(شتان ما بين عالم يئن تحت وطأة الفاقة والحاجة، لم يحقق بعد المكتسبات البيولوجية، لا زال [كذا] يكافح من أجل البقاء، وعالم يرفل في النعيم يسمى بعالم الرفاه، يحاول إعادة النظر في الإرهاب الذي مارسه على الطبيعة والبيئة والإنسان)[13] . وأن تكتب أفضل روايات الحداثة العراقية وروايات ما بعد الحداثة خارج العراق أمر له دلالة المباشرة ، وأمثل للأولى بروايات غائب طعمة فرمان والأخرى بروايات علي بدر ، من دون أن تفوتنا الإشارة إلى وجود عدد من الروايات الجيدة التي كتبت داخل العراق .
وفضلاً عما تقدم فإن مما أضر إضراراً كبيراً بالمستوى الفني للرواية العراقية بشكل عام هو توجه قسم كبير منها نحو خدمة أغراض سياسية وقيام قسم آخر منها على اساس دعائي لهذا الفكر وتلك العقيدة وذلك الحاكم ، الأمر الذي جعل كثيراً منها خالياً من أي قيمة فنية ؛ فهي عمل كتب للدعاية أو للتكسب أو للترهب وهو يخلو من أية رصانة وأية جودة .
وقد كان منحى الرواية العراقية التجريبي عاملاً مضافاً في إضعاف الرواية العراقية من الناحية الفنية؛ نظراً للطابع المتعجل الذي طبع هذا التجريب ؛ علماً أن هذا التجريب لم يكن من إبداع الروائيين العراقيين أو إبتكارهم ؛ وإنما هو تقليد لنماذج روائية غربية أريد لها أن تطبق في الرواية العراقية من دون إستيعاب وافٍ للجوانب الفنية والفكرية والسياسية والإجتماعية والثقافية التي اكتنفت الإنموذج الروائي الغربي المراد تقليده.
إن جميع ما ذكرته يمكن أن يبين مدى صعوبة كتابة رواية الحداثة في العراق ، وهي الرواية التي لم يكن الروائي العراقي بوجه عام على معرفة مقبولة بخلفيتها التأريخية والنظرية .
وهكذا جاءت التجربة العراقية في رواية الحداثة فقيرة في منحاها الفني ، إذ يبدو القسم الأعظم من الروايات العارقية محاولات روائية متعثرة لكتاب لم يجيدوا الصنعة الحداثية لأنهم ببساطة لم يكونوا على دراية كافية بها ولأنها تقتضي مراناً وصبراً لم يتوافرا للكتاب العراقيين ولأنها تحتاج إلى مهارة وثقافة فنيين لم يملكمها الروائي العراقي في الأغلب العام .
الغريب أننا نجد من جانب آخر أن رواية ما بعد الحداثة وخلافاً لما ذكر آنفاً تتلاءم مع الروائي العراقي بصورة كبيرة إذا ما قورنت برواية الحداثة ، فهي وبقرب كثير من نماذجها من الحكاية الشعبية ، وإعتمادها على سارد يتولى مهمة سرد الأحداث وببساطتها وإبتعادها عن التقنيات المتنوعة والمعقدة بعض الشيء كتيار الوعي والتداعي وسواهما وإلى غير ذلك من مواصفاتها الفنية ، هي بذلك كله أسهل تناولاً على الكاتب العراقي الذي أخذ يدور من غير طائل على محيط رواية الحداثة من دون أن يصل إلى مركزها إلا نادراً . ومما يسهل إشتغال الروائي العراقي على رواية ما بعد الحداثة هو قربه منها من ناحية معرفته بالحكاية الشعبية وقصص ألف ليلة وليلة التي نجد أن قصص ما بعد الحداثة تنهل منها بل وتقيم مبناها الفني عليها [14]. ولكن رواية ما بعد الحداثة بقيت على مبعدة من أيدي الروائيين العراقيين الذين انهمكوا في محاولات ظلت غير مجدية في الغالب في تقليد رواية الحداثة التي انتهت تأريخياً قبل إنطلاق الرواية العراقية بعقدين من الزمان .
خاتمة
تطرقنا في هذا البحث لمجموعة من المفارقات التي عرفتها الرواية العراقية في علاقتها برواية الحداثة ، وكان أصل هذه المفارقات تأريخياً مفاده أن الرواية العراقية استمرت في مجملها طيلة أكثر من اربعين عاماً وإلى الآن في تقليد رواية الحداثة الغربية التي انتهت تأريخياً قبل عقد من الزمان على نشأة الرواية العراقية الفنية في العقد السابع من القرن الماضي على يد الرائدين فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان .
وقد وجدنا من خلال البحث أن ثمة أسباباً متعددة هي التي أدت إلى استمرار هذه الظاهرة إلى يومنا هذا ، ولفتنا إلى عدد من النتائج التي تولدت نتيجة هذه الظاهرة ، وأشرنا في هذا المجال وعلى وجه الخصوص إلى الآثار الفنية المترتية على جميع ما تقدم . من دون أن نغفل عن وجود عدد من الروايات العراقية التي استطاعت أن تخرق شرنقة الحداثة التي تلف الرواية العراقية منذ يومها الأول – إن جاز التعبير – وتمكنت من مواكبة الرواية العالمية التي أخذت منذ أكثر من نصف قرن بالكتابة وفق إنموذج ما بعد الحداثة .
المصادر والمراجع[15]
أولاً : المصادر ( الروايات )
أ – الروايات العراقية :
1- أطراس الكلام عبد الخالق الركابي صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد 2001 ط1 .
2- سابع أيام الخلق عبد الخالق الركابي صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد 1994 ط1 .
3- قبل إكتمال القرن ذكرى محمد نادر صدرت عن المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة 2001 ط1 .
4 – نزوة الموتى شاكر نوري صدرت عن دار
أصوات باريس 1992 ط1 .
ب- الروايات العالمية
ساحر الصحراء باولو كويلهو ترجمة بهاء طاهر دارالهلال القاهرة 2006
ثانياً – المراجع
أ – الكتب
1- البناء الفني في الرواية العربية في العراق د. شجاع مسلم العاني، دار الشؤون الثقافية العمة بغداد 1994 ط 1 .
2- تأريخ الرواية الحديثة ر . م ألبيريس ترجمة جورج سالم منشورات عويدات بيروت 1967 ط1 .
3- الحداثة تحرير مالكم برادبري وجيمس ماكفارلن ترجمة مؤيد حسن فوزي دار المأمون للترجمة والنشر بغداد 1987 ط ا .
4- الرواية في العراق 1965-1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها
د. نجم عبد الله كاظم ، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 1987 ط1 .
5- في النقد القصصي عبد الجبار عباس ، دار الرشيد للنشر بغداد 1980 ط1 .
ب- المجلات والصحف :
1- مجلة فصول المصرية العدد الرابع لسنة 1998 .
2- مجلة فكر ونقد المغربية العددان 34 و57 .
3- جريدة المستقبل اللبنانية العدد 1540الثلاثاء 9 آذار 2004 .
[1] لتتبع هذا الخلاف والآراء بشأنه انظر ( البناء الفني في الرواية العربية في العراق ) للدكتور شجاع مسلم العاني ج1 ‘ ص6 ؛ و( الرواية في العراق 1965-1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها ) للدكتور نجم عبد الله كاظم ص15 -21 ؛ و( في النقد القصصي ) لعبد الجبار عباس ص325 .
[2] انظر تأريخ الرواية الحديثة . ألبيريس ترجمة جورج سالم ص 87 .
[3] أعني بالحداثة على وجه التحديد الحركة التحديثية التي عرفها الأدب ولاسيما الرواية منذ نهايات القرن التاسع عشر وامتدت لتشمل العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين ، محتوية وفق عدد من الباحثين إلى العقدين الرابع والخامس من القرن نفسه ؛ ولمعرفة تفصيلية ب(الحداثة) انظر : ( الحداثة ) تحرير مالكم برادبري وجيمس ماكفارلن ترجمة مؤيد حسن فوزي .
[4] من المهم الإشارة الى أن المنظرين اختلفوا في تأريخ نهاية النهج الحداثي في الرواية مثلما اختلفوا في رصد يداية هذا النهج ، ولكننا حددناها ب 1940 لأن هذا التأريخ الذي وضعه البيريس يأتي قريباً مع تأريخ نهاية الحداثة برمتها وفقاً لبرادبري وجيمس ماكفارلن اللذين ييؤشران في العنوان الداخلي المرفق بعنوان كتابهما إلى بدايتها ونهايتها ب( 1890- 1930 ) واللافت أن البداية جاءت مطابقة .
[5] مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة مقال لعلي وطفة منشور في مجلة فكر ونقد المغربية العدد 34 .
[6] انظر روايته ( نزوة الموتى ) .
[7] انظر روايته ( أطراس الكلام ) (2001) التي كتبها بالأسلوب الحداثي بعد أن نشر قبلها روايته المهمة ( سابع أيام الخلق ) ( 1994) المكتوبة بطريقة رواية ما بعد الحداثة . وحول هذه النقطة انظر أيضاً الحداثة في الرواية العربية أحمد عمر جريدة المستقبل البيروتية – الثلاثاء 9 آذار 2004 – العدد 1540 – ثقافة و فنون – صفحة 18.
[8] كما هو الحال مع روايات ماركيز التي قلدها أكثر من روائي عراقي .
[9] انظر رواية ( قبل إكتمال القرن )( 2001) للروائية العراقية ذكرى محمد نادر التي قلدت فيها رواية (مائة عام من العزلة ) لماركيز .
[10] يصدق ذلك على الروائيين فؤاد التكرلي وعلي بدر وحدهما .
[11] انظر مقال الدكتور عبد الإله أحمد ( الوعي الفني في الرواية العراقية المعاصرة والمرجعية التراثية في رواية سابع أيام الخلق لعبد الخالق الركابي ) مجلة فصول، المجلد 17 العدد 4/1998.
[12] انظر كتاب ( الرواية في العراق 1965-1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها) للدكتور نجم عبد الله كاظم على سبيل المثال ، وهذا الكتاب هو في الأصل رسالة دكتوراه للدكتور كاظم كتبها في إحدى الجامعات البريطانية في ثمانينيات القرن المنصرم .
[13] إشكالية الحداثة في عالم ما بعد الحداثة! مقال لخالد الحسيني منشور في مجلة فكر ونقد المغربية العدد 57 . والصواب ما زال .
[14] كما هو الحال مع رواية ( ساحر الصحراء ) لباولو كويلهو ترجمة بهاء طاهر وللرواية عنوان آخر هو ( الخيميائي ).
[15] أكتفي هنا بإدراج المصادر والمراجع التي ذكرتها على نحو مباشر .