التجريب وجماليات المفارقة السردية
في رواية : الدراويش يعودون إلى المنفى .
لإبراهيم درغوثي
د . بوشوشة بن جمعة
معهد بورقيبة للغات الحية / تونس
تمثل هذه الرواية منعطفا نوعيا في مسيرة الكاتب إبراهيم درغوثي الأدبية ، يعلن من خلالها عن تحوله من كتابة القصة القصيرة إلى الضرب في مسالك الرواية ، وكأن فضاءات الأولى قد ضاقت فلم تعد قادرة على صياغة رؤاه والتعبير عن مواقفه من إشكاليات الراهن المستجدة وما تطرحه من تحديات تتجاوز الذات الفردية إلى الجماعية فالإنسانية . فكانت الرواية البديل الأنسب في نظره ، بحكم ما تتميز به جنسا أدبيا من رحابة وانفتاح يوفران لكاتبها حرية أكبر في التعبير ، ومرونة أكثر في الاشتغال على آليات إنجازها .
وهذا التحول الذي يكشف الكاتب ذاته عن خلفياته في قوله : ” تحولت من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية مباشرة بعد سقوط حائط برلين وبداية حرب الخليج الثانية . فقد أحسست في تلك الفترة بدمار بدني وروحي أردت أن أعبر عنه بالكتابة . ولكنني توقعت أن القصة القصيرة لن تقدر على احتواء كل هذا الدمار ، فكتبت رواية – الدراويش يعودون إلى المنفى – التي جاءت متشظية ، مهشمة ، منتهكة لناموس الكتابة التقليدية ممتنعة عن القارئ العجول ، ساخرة من ذائقة المتقبل التقليدي في شكل قصص مصندقة تدعو القارئ إلى البحث عن روابط يحزم بها الشظايا الخارجة عن الضبة والمفتاح ( 1 ) . وهذا ما أكسب هذه الرواية سمتها التجريبية الأولى باعتبارها تعد باكورة هذا الكاتب في مثل هذا النوع السردي ( 2 ) . وذلك بعد عزوف عن الكتابة تواصل على مدى ثلاث سنوات بسبب منع الرقابة تداول مجموعته القصصية الثانية : ” الخبز المر ” ( 3 ) . فمثل هذا التحول إلى الرواية نوعا من الخلاص . وهو لا يشذ في ذلك عن أغلب الكتاب الذين بدأوا بكتابة القصة القصيرة قبل أن يتحولوا عنها إلى الرواية مما سيعلل – لاحقا – رشح هذه الرواية بعدد من مقومات القصة القصيرة التي لم يستطع الكاتب التخلص من سلطتها وهو يكتب روايته هذه . فأكثر من عناوينها الرئيسة والفرعية ، حتى بدت وكأنها مجموعة قصصية كل أقصوصة منها تستقل بعنوان رئيسي وبآخر فرعي أو أكثر إلا أنها تتضافر مع بعضها البعض لتشكل مجتمعة كلية النص عبر تركيب الحكاية التي قام الكاتب بتقطيعها . وهي النزعة التجريبية التي ستؤكدها مجموع العتبات التي اختارها الكاتب لنصه .
1 ) عتبات النص وجماليات المفارقة :
غالبا يختزل العنوان مداليل الرواية الفكرية والجمالية . وإن أوحى بأنه يمثل نصا مستقلا عن النص الروائي بسبب جمالية تشكيله البصري على الغلاف : كتابة ورسما ، فيبدو وكأنه نص منفرد إلا أنه يرتبط – في الحقيقة – ارتباطا عضويا بالنص الروائي / النص الجمع بحكم ما يتوفر عليه من علامات رمزية دالة عليه ومحيلة إليه : مراجع كتابة وتشكيل للرواية وصوغا للحكي وتعبيرا عن الموقف من الذات والعالم . فلفظ ” الدراويش ” الذي يتصدر صيغة العنوان يكشف بشفافية عن مرجعه الصوفي لكي يشكل – منذ البداية – علامة دالة على استثمار الكاتب التراث الصوفي من خلال توظيف بعض عناصره وهو ما سيؤكده لاحقا من التصدير ، والمتن الحكائي الذي سيخذ من شخصية درويش فاعلا مركزيا للحكي ونموذجا دالا على مذهب الدراويش من المتصوفة في ممارسة تجربة الوجود . مما يكشف عن نزعة الكاتب التأصيلية في إنشائه هذه الرواية . غير أن لفظ ” الدراويش ” ينزاح عن دلالته الأصلية التي تقرنه بالتصوف وأهله ليكتسب أخرى جديدة تقرنه بالعرب والمسلمين وما انتهوا إليه من أحوال ومصائر في الواقع المعاصر في ظل العولمة .
وذات الانزياح الدلالي يطال لفظ ” المنفى ” : فضاء اقترن دائما بالجبار ، وإذا به يتحول إلى فضاء اختياري اتخذه درويش والجماعة مستقرا . فيتم فعل العودة إليه طوعا لا قسرا بدل أن يصدر عنه فعل الخروج إلى فضاء الحرية ، فصار يشكل فضاء الحرية الأرحب والأرحم لا العكس .وهي دلالة جديدة حولته من فضاء سالب إلى فضاء موجب . تحول في الدلالة يكشف عن فداحة خسران الذات الفردية والجماعية لرهاناتها في الوجود بعد أن دمرت إرادتها ، وتحول الفعل إلى عجز . والفعل ما لم ينجز مأساة .
فالمنفى صار يمثل في ضوء هذه المفارقة الدلالية ، المكان النموذجي : منه ينطل الدراويش وإليه يعودون نهائيا ، عودة تبدو قسرية ودلالة على ديمومة قهر الزمان والمكان والإنسان للذات الفردية والجماعية ، والحيلولة دون إثباتها لهويتها وتأصيلها لكيانها . فانغلاق دائرة المكان يرمز إلى انغلاق دائرة الأفق . ويكشف عن رؤية الكاتب التشاؤمية للزمن الآتي حتى وإن سعى إلى إيهام القارئ بنقيضها . فدخول درويش الكهف وراء الجماعة وإغلاقه باب الحجر يمثل علامة أبلغ في الدلالة على تشاؤم الكاتب من تلك التي يمثلها جري الأطفال في شوارع القرية عند إشراق شمس يوم جديد وامتلاء السماء بطائرات الورق ( 4 ) . وهو التشاؤم الذي يكرسه مقطع ” بعد النهاية ” الشعري لقسطنطين كافافي .
وتتأكد النزعة التجريبية لهذه الرواية في عتبتها الثانية ممثلة في نص التصدير المأخوذ من كتاب ” الأسطورة والمعنى ” لعالم الإحياء كلود ليفي شتراوس والذي يقول فيه : ” لقد أقض مضجعي منذ الطفولة ذلك الشيء الذي نستطيع تسميته باللاعقلاني ” ( 5 ) . وهو قول استثمره الكاتب لكي يعلن من خلاله على النزعة التجريبية لروايته ، وتحرره – في كتابتها – من منظورات الرواية الكلاسيكية ، والتي تجعل من هذا النوع الأدبي صدى للواقع وانعكاسا له وذلك باشتغاله في إنشائها على طرائق الغريب والعجيب والخارق والمفارق للواقع . وهو ما يمثل علامة تجريبية دالة على اختراق الكاتب ثوابت النموذج الواقعي للرواية في بعديه النظري والإجرائي وتأسيسه نموذج كتابة روائية مغايرة تقوم على اللامعقول الذي استثمر عناصره الفكرية والجمالية . وهو ما يوضحه الكاتب نفسه في قوله : ” إن ما يحدث أمام أنظارنا من تقدم علمي وتخلف اجتماعي وحيف اقتصادي وهيمنة لروما الجديدة على مقدرات مساكين هذه الأرض جعل الكاتب يعجز عن تصوير هذه الأحداث إذا عالجها بطريقة الواقعية الاجتماعية التي سادت في منتصف القرن الماضي . فعاد إلى تراث الشعوب القديمة يكتب من خلاله حاضرنا . فنجد كتاب أمريكا اللاتينية يعودون إلى تراث الهنود الحمر وكتاب شبه القارة الهندية وإفريقيا واليابان يحيون حكايات الأجداد ، والكتاب العرب يستثمرون التراث العربي الإسلامي بعجيبه وغريبه يكتبون من خلاله عن واقع مأزوم شبيه لعهود غزو التتار لبلاد المشرق وتمزق الإنسان العربي بين حاضر بائس وماض تدعي الأساطير التي وصلتنا عنه أنه كان مشرقا وضاء . ( 6 )
ففي زمن معاصر غدا فيه المعقول لامعقولا ، وهذا الأخير معقولا لا يمكن الكتابة عنه إلا بأشكال تعبيرية تستثمر عناصر اللامعقول بعد أن ” أصبح الإنسان العادي هو الذي يعيش في عالم غير عادي وبدلا من أن يكون تجاوز الواقع انعكاسا لرؤيا إنسان شاذ لعالم سوي ، أصبح اللامعقول انعكاسا للعالم الشاذ في رؤية الإنسان العادي في حضارتنا .
وبعد أن كان التمرد على اللامعقول نابعا من ذات إنسانية مريضة ، أصبح اللامعقول واقعا خارج الإنسان ” ( 7 ) .
ثم إن هذا القول يتبناه الكاتب في تصديره ويصوغ في ضوئه تصوره للرواية . يتطابق نع نظرية الأديب إدغار آلان بو الأدبية ، والتي يعلن فيها بوضوح أنه ” لا يؤمن بمطابقة العمل الفني للواقع بل أنه يرى أن مطابقته له عيب جسيم . وبقدر ما يبعد وجه الشبه بينهما ، تعلو قيمة العمل من الوجهة الفنية . ( 8 ) كما يتبنى الكاتب ذات ثورة ” بو ” على معقولية الحياة في كنف الحرص على أن تكون هذه الثورة مبررة . من ذلك أن رواة قصص ” بو ” أو أبطالها يكشفون أحيانا عما في حكاياتهم من غرابة . وهو ما نجد درويش راوي هذه الرواية / أو بطلها يعلن عنه في قوله : ” سامحوني لم أقل لكم منذ البداية أن درويش هو بطل هذه الرواية العجيبة الغريبة والتي لو كتبت بالإبر على مآقي البصر لكانت عبرة لمن يعتبر “
( 9 ) .
ونجد معظم شخصيات ” ادغار آلان بو ” شاذة ” كأن تكون على حافة الجنون أو على حافة اللاشعور ، مما يجعل من الطبيعي أن تكون رؤاها أقرب إلى الهذيان وأن تضطرب أمامها قواعد المنظور ( 10 ) . وهذا ما يسم أغلب شخصيات هذه الرواية التي يؤكد درويش الراوي / الكاتب على شذوذها على المألوف وغرلبتها عن العادي بما فيها هو في قوله : ” لقد شتت أفكارنا هذه الشخصيات الغريبة ولم ندر أين نظعها ؟ في الميثيولوجيا أم في الواقع الأغرب من الميثيولوجيا ؟ قد يقول بعضكم هذا أو أكثر ( 11 ) .
ثم أن الجو الأسطوري الذي يضفيه ” بو ” على الأمكنة والأزمنة يسهم في إيقاظ ما ترسب في أعماق شخصياته من خرافات ومخاوف . فضلا عن نوعية الكتب التي تقرؤها باعتبارها تسهم في تضخيم أوهامها وهكذا تختلط الحقيقة لديها بالأوهام وتنتهي إلى عالم لا هو بالحلم ولا هو باليقظة . وهو ما ينطبق على عوالم هذه الرواية التي عمد الكاتب إلى أسطرة فضاءاتها ، أزمنتها أ شخصياتها وأحداثها إلى حد يعسر معه التمييز بين الواقعي والمتخيل ، العادي والعجيب ، المألوف والغريب ، الممكن والمستحيل . وهكذا : ” يلقي أدباء اللامعقول اليوم بعبء الشذوذ على عالم تعيش فيه شخصياتهم ، وهي شخصيات مهمتها الأساسية أن تدرك هذا الشذوذ وتفضحه ( 12 ) .
كل هذا يؤكد عمق تأثر الكاتب في كتابة روايته بمذهب السورياليين في تمردهم الأدبي والاجتماعي والفني . وتحطيمهم الثابت من أشكال التعبير على ” أساس عدم وجود نظام في هذا العالم ، ولا يمكن أن يكون الفن إلا صورة من هذا العالم ، لأنه يعكسه ويمثله ، أي أن يكون بلا شكل ( 13 ) .
2 – حداثة الشكل بين فوضى الأنساق ونقدية الرواية :
يعلل هذا اللاعقلاني فوضى السرد التي وسمت هذه الرواية وبنيتها ، مما يجيز نعتها برواية اللاشكل / واللابنية ، غير أن ذلك لا يعني قطيعتها الكلية مع الواقع / والمعقول . فالكتابة كما يقول يوجين يونسكو ” تحد للانعزال والكشف عن لا معقولية الوجود وهي دليل على وجود إحساس داخلي بالمعقول ” ( 14 ) .
وفوضى السرد علامة دالة على تجريبية هذه الرواية . يؤشر لها الشكل قبل أن تؤكدها بنية المتن وأنساق الخطاب مما يكشف عن استثمار الكاتب لتقنية التقطيع من خلال تشظية الحكاية وتوليده بشكل يقوم على التداخل ، مما يربك المتلقي الذي يجد عسرا في متابعة الحكي وإعادة تركيبه وفق منطق التعاقب الزمني .
فقد قسم الكاتب المتن الحكائي لروايته إلى ثلاثة عشر بابا خص كل واحد منها بعنوان . وهو تقسيم مستوحى من عديد المصنفات الأدبية والتراثية التي قام أصحابها بتصنيف موادها إلى أبواب .
ويؤطر هذه الأبواب الثلاثة عشر فصلان هما ” قبل البداية ” و ” بعد النهاية ” . وكل منهما يميز بأبعاده الجمالية والدلالية من خلال ما يضطلع به من أدوار داخل السرد ، ويعبر عنه من مواقف نقدية تتنوع مداراتها .
فالفصل الأول ” قبل البداية ” يكتسب أهمية مما يتضمنه من علامات تجريبية تتجلى بالأساس في حضور النقدي في الإبداعي / الروائي ، فكان انبناؤه على تداخل خطابين ينتميان إلى حقلين مختلفين ومتمايزين ولكنهما يتكاملان : الأدب والنقد . فالنقدي يكشف عن مدى وعي الكاتب بفعل الكتابة الروائية شروطا وأدوات ومقاصد . وهو الوعي الذي اقترن بإشكاليات الكتابة فعلا إبداعيا في تاريخيتة العربية وبأسئلة الرواية جنسا أدبيا يمتلك ماهيته الخاصة ، ومراجعه ، وفضاءاته ، وشخصياته ، وموضوعه ، وأزمنته ، وأنساق خطابه ، ولغته ، وأشكال تعالقه مع غيره من أجناس الإبداع كالسيرة الذاتية .
فصيرورة الإبداع العربي ، الفكري والأدبي تثبت أنه – كان ولا يزال – نتاج حالة خوف ملازمة له ومتمكنة منه وهو خوف مزدوج من أن يكون موضوع تهمة وسبب هلاك / موت . وهي الحالة التي استبدت بكاتب هذه الرواية وجعلته يرغب عن الكتابة درءا لتداعياتها : محنة تنتهي إلى فاجعة . غير أن الإحجام عنها يؤدي بدوره إلى ذات المصير : ” حرق ما يكتب وقتل من يكتب ” . وهو ” قدر لعبة الكتابة في المجتمع العربي حيث التهم جاهزة في حال وجود الكتابة كما في حال انعدامها ” ( 15 ) . وهذا ما يكشف عنه الراوي / الكاتب في قوله : ” ولكن درويش هددني بالقتل قال : إن لم تكتب هذه الرواية سأقتلك شر قتلة ” ( 16 )
فكان الإذعان للأمر ، والذي يحول الكتابة إلى فعل وجودي ، مشتق من كيان يتحدى فاجعة المصير ، تحت وطأة القهر والقمع .
ولا يسلم فعل القراءة من ذات الإكراه والمآل بحكم تعالقه وفعل الكتابة الذي يورطه معه . ليست القصة هنا سوى ” لعبة تخييلية ينجح الكاتب في صياغتها بقصد إدماجنا نحن القراء في هذه اللعبة فنكون فيها طرفا ” ( 17 ) .
ويبدو استثمار نص ” ألف ليلة وليلة ” بينا – في هذا السياق – ذلك أن الحكاية التي اقترنت بالقتل في الليالي في حال امتناع شهرزاد عنها تجد امتدادها في حقل الكتابة عبر مختلف مراحل سيرورته التاريخية . فالرواية / حكاية يقترن إنجازها بالزمن الليلي ، معاناة خوف / وحرف وصوت . ومن ثم فإن فاجعة الرواية إن لم تكتب رجع صدى لفاجعة الحكاية إن لم تسردها شهرزاد .
ويكون سؤال الرواية لذاتها عن ذاتها عبر البحث في ماهيتها . والتي تتأسس من خليط من تتداخل فيه الحقيقة بالوهم ، الواقع بالحلم ، الصدق بالكذب ، المألوف بالغريب ، مما يربك فعل القراءة . وقد التبست تخوم تلك التقاطبات إلى حد التماهي ، وهو ما يؤكد الطابع التجريبي لهذا النص والذي يستمده من فوضاه السردية المحتكمة إلى منطق خاص في الكتابة يتأسس على رفض أنساق منطقها السائد . وهذا ما يفضي به الكاتب في قوله :
” ما كنت أحلم إذن وهذه الحكايات هي الرواية التي طلب مني درويش كتابتها . قد يقول بعضكم ما هذه الرواية ؟ إنها كذبة ، تهويم رجل مجنون ، خرافة يحكيها حشاش … والدليل على ذلك هذا الخبط ذات اليمين وذات الشمال ، حتى أنه يصعب عليك في بعض الأحيان الربط بين ما كنت تقرأه في الصفحات السابقة والأخرى التي تليها .( 18 )
ويتولد عن سؤال الرواية لماهيتها سؤالها عن موضوعها . ” قال : إذن ستكتب الرواية ؟
قلت : اكتب ، ولكن ماذا سأكتب وأنا لا أعرف عن موضوعها شيئا ؟ ( 19 )
فالحيرة التي يبديها الراوي / الكاتب إزاء موضوع الرواية تعود إلى إدراكه أن ” الرواية تبحث عن واقع لن يوجد إلا بعد الانتهاء من الكتابة ( 20 ) .
وبناء على ذلك فإن موضوع الرواية يبقى في نظر الروائي إبراهيم درغوثي وحسب تنظيرات أعلام الرواية الجديدة والذين تبدو أصداؤهم حاضرة في الخطاب النقدي الذي ينهض عليه هذا الفصل ، ذلك ” الواقع المجهول واللامرئي . وهو ما يراه بمفرده . وما يبدو له أنه أول ما يستطيع رصده . الواقع لديه هو ما تعجز الأشكال التعبيرية المألوفة والمستهلكة عن التقاطه ، مستلزما طرائق وأشكال جديدة ليكشف عن نفسه ” ( 21 ) .
فما يبدو من أسطرة للواقع ، تتجلى في استثمار عناصر الأسطورة ومناخاتها إلى جانب صفات العجيب والغريب والخرافي ، في تشكيل الفضاءات والشخصيات والأحداث والأزمنة والخطابات ، إن هو في الحقيقة إلا إعادة إنتاج لواقع الروائي والناس – في آن – في ضوء موقف من العالم وموقع لتلقي هذا العالم ، يكشف عنهما النص .
فالمشكلة الحقيقية بالنسبة للروائي ” لا تكمن في الموضوع ، وإنما في توليف الموضوعات واستثمار كل الامكانات داخل منطق حكائي يبدو لا منطقيا بالنسبة بالنسبة لمراهنات العقلانيين والتجريبيين معا ، مادام يبني منطه الخاص ، الذي هو منطق الكتابة ، كتجنيس للسياسة وتسييس للجنس واسطرة للواقع ، وبناء للأسطورة في إطار الواقع ، وقراءة للتاريخ كماض يمتلك بعض تجليات الحاضر ( 22 ) .وهو ما يقضي إلى التأكيد على أن ” الرواية تؤلف سردها من السرد نفسه . حيثما كان . وهو موجود في كل شيء ” ( 23 ) .وهذا ما يؤكده الراوي / الكاتب من خلال كشفه لقارئ روايته عن مراجعه المختلفة والمتنوعة التي استثمرها في كتابتها ، والتي تشكل عناصر ثقافته في شتى تجلياتها وأبعادها حيث يثبت نصوص القرآن
والتوراة وألف ليلة وليلة وتاريخ التمدن الإسلامي وعيون الأنباء ومروج الذهب وتاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ومثنوي جلال الدين الرومي وفوات الوفيات ووفيات الأعيان والبصائر والذخائر وطواسين الحلاج وجامع كرامات الأولياء وديوان من يعرف الوردة لسعدي يوسف وغيرها من المراجع التي صمت عنها الراوي / الكاتب وأبى أن يكشف عنها لقارئه . وهي النصوص التي يؤلف بينها الرازي / الكاتب من خلال أشكال من التعالقات التي تسهم بحكم ائتلافها واختلافها ، تناغما وتصادما ، في توليد الحكاية وتناميها واغناء مختلف مكوناتها السردية : جماليا ودلاليا وهي ” مراجع كتابة فيها ما حافظ على أصله وحدوده كنص المسعودي من ” مروج الذهب ” ونص العهد القديم والاصحاح الثالث ونص سعدي يوسف الشعري من ديوانه : من يعرف الوردة ” . وفيها ما كان انصهر في سياقات الرواية ” ( 24 ) .
وهو ما يكشف عن اشتغال الكاتب المكثف على تقنية التناص في كتابة روايته . وعن تصوره / النظري و الإجرائي لطريقة إنشاء النص الروائي / ومنها نصه هذا ، ونصوصه اللاحقة . فإذا هي ” تتفاعل بين النص التراثي والنص الروائي التخييلي ، من جهة ، ومن جهة أخرى هي تفاعل بين الواقعي والعجائبي .. هذا التفاعل لا يقف عند حد جعل أحدهما في خدمة الآخر ، أو أن يكون صدى له ، ولكنه يزيل الحدود بينهما فتصبح العوالم متداخلة بلا مسافات ولا حواجز ( التداخل بين البطل والكاتب ، وبين عصر الكاتب وعصور قديمة ) ( 25 ) .
وهو تناص نصوص قد يتحول إلى اتهام نفوس ترى فيه نوعا من السرقة / الأدبية والفكرية . وهو الاتهام الذي يبرئ الراوي / الكاتب منه لقارئه الذي يجد نفسه مورطا في تهمة السرقة والسطو على التراث بعد أن سبق له أن تورط في تهمة الكتابة . وهو ما يفصح عنه الراوي / الكاتب لقارئه معبرا عن رفضه تواصل النظرة التقديسية / والتلفيقية للتراث / المكتوب والشفوي كذاكرة أمة لا يرقى إليها الطعن ومخزون لا يجوز انتهاك حرمته . يقول : ” شيء واحد أريدكم أن تعذروني فيه وأنتم تقرأ ون هذه القصة . لا أريدكم أن تتهموني بالسطو على بعض الكتب التي ذكرتها لكم في بداية الحكاية ، فقد هددني درويش أكثر من مرة عندما طلبت إعفائي مما نسبة ما ورد في تلك الكتب إلى نفسي . فقد هددني بالقتل وبتقطيع أعضائي .. فكنت في كل مرة أمتثل أوامره خوف التنكيل بجسمي . وها أنا أعترف لكم الآن وأنا في كامل مداركي العقلية بذلك . بهذا لا تشكوني إلى لجان المحافظة على التراث الفكري بتهمة السطو والسرقة مع سابق الإضمار والترصد ( 26 ) .
ويتبع إعلان الرواية عن مراجع كتابتها ، إفصاح المؤلف عن حضوره المباشر فيها ، حيث يضطلع بوظيفة السرد إلى جانب مشاركته في الأحداث والإسهام في تنامي أنسلقها . يقول مخاطبا قارئه/ المفترض : ” يا صاحبي ، أنا لست رجل علم وأدب ، كل ما في الأمر أنني كاتب هاو لي بعض المحاولات في القصة القصيرة والخواطر التي لم يلتفت إليها حتى نقاد الدرجة الثالثة ( 27 ) .
ويشكل هذا الحضور لشخصية المؤلف علامة أخرى دالة على تجريبية هذه الرواية ، وهو ينجز وظيفة السارد بدل أن يتوارى خلف سارده كما في الروايات الكلاسيكية . والتي تجعل منه – أي المؤلف – قطبا أساسيا لتفسير العمل الروائي . في حين أن ” النظرة الجديدة للنقد الجديد تسعى إلى التمييز بين المؤلف كسارد الذي يتحول هنا إلى شخصية ورقية كباقي الشخصيات الروائية الأخرى وليس المؤلف ككائن حي ” ( 28 ) . وهو ما يجعل ” أسطورة الكاتب تتحول إلى كاتب أسطورة الواقع ” ( 29 ) . فهو كائن تسكنه الأحلام ، وتتملكه الرؤى وتلح عليه التوقعات . وقارئ يعيد إنتاج ما يقرؤه / وما يعيشه و يعايشه في السياسة فيتمرد على قوانينه ، وفي الدين فيخترق أحكامه ، وفي الأخلاق فيتعدى على نواميسها ، وفي الأعراف فيتجاوز ضوابطها ، وفي الأدب فيرفض قواعده وأشكاله الجاهزة ، وفي النقد فلا يتقيد بتنظيراته . ولذلك كله لا غرابة أن كان الكاتب صاحب خسارات كبرى في رهانات الوجود .
ويحضر المؤلف / القارئ كشخصية من شخصيات سرده ، يوجه إليها الخطاب تارة في صيغة المفرد ( 30 ) وطورا في صيغة الجمع ( 31 ) حتى يهيئها فكريا ونفسيا لتقبل هذه الرواية الغريبة والعجيبة والمفارقة للمتعارف عليه من أنماط الرواية التقليدية وذلك قبل أن يتركها ليتابع إنشاء حكيه / أو نصه مثلما يشاء . خارقا بذلك ما تعهد به من عقد معها . مما يكشف عن الطابع المخادع لمثل هذا التعاقد بين الكاتب و القارئ .
ويعكس التعالق بين الروائي / والقارئ في الحقيقة تعالق الرواية / والقراءة بسبب أن الأولى لا يمكن أن يكون لها وجود خارج الثانية . فالقراءة هي الني تهب النص وجوده الفعلي من خلال ما تكشفه من خصائصه الفكرية والجمالية . وبدونها يبقى النص في حال كمون ينتظر القارئ القادر على فتح مغالقه . وقد تقصد الكاتب اسطرة فعل القراءة في هذه الرواية بأن أضفى أبعادا عجائبية على زمن إنجازها وذلك من خلال توصل الراوي / الكاتب إلى قراءة الكثير من المصنفات المختلفة والمتنوعة في مدى زمني قصير لا يتجاوز الشهرين . ثم تختفي تلك الكتب لتحل مكانه أوراق كثيرة مبعثرة عمد الراوي / الكاتب إلى جمعها وترتيبها حسب الفصول والأبواب . وشرع في قراءته ، فإذا هي الرواية التي طلب منه درويش كتابتها ( 32 ) . وهو ما يكشف عن منظور الكاتب لعملية القراءة التي يجب أن تكون منتجة لا استهلاكية . ولكتابة الرواية التي يجب أن تكون وليدة حالة وعي / حرية في خرقها للنموذج السردي السائد : أبنية ودلالات .
ثم يكشف الراوي / الكاتب عن الطابع اللامعقول لشخصيات روايته من خلال سرده لما تأتيه من أفعال تتسم بالغرابة . وتعيشة / أو تعايشه من وقائع وأحداث تنتهي إلى العجز الذي يدرك في أحيان كثيرة مدى الخارق مما يربك تلقي القارئ لها بسبب ما يميزها من كثافة دلالية حولتها إلى رموز متمنعة وهو ما يعترف به الراوي / الكاتب في قوله ” :لقد شتت أفكارنا هذه الشخصيات الغريبة . ولم ندرك أين نضعها ؟ في الميثيولوجيا أم في الواقع الأغرب من الميثيولوجيا ؟ قد يقول بعضكم هذا وأكثر . ( 33 )
وتمثل البنية المعقدة للشخصيات التي جاءت خليطا غريبا وعجيبا من الكائنات جمعها النص وإن باعد بينها الزمام والمكان ، علامة أخرى دالة على تجريبية هذه الرواية تتجلى في تدمير الكاتب / الراوي البنية الكلاسيكية للشخصية الروائية المستهلكة والنمطية ، مما أضفى على شخصيات هذه الرواية طابعها الإشكالي الذي تستمد منه العلامات الدالة على حداثتها .
ولما تعددت المراجع التي استثمرها الكاتب في تشكيل عالم روايته وتنوعت ، بأن تراوحت بين الواقعي / والتاريخي والأسطوري واتخذت أشكالا من التعالق داخل النص السردي ، فقد تعدد خطابات هذه الرواية بدورها وتنوعت لتسهم متضافرة في النسيج الحكائي ، في أنساق وسمها التشظي متوسلة بلغة أمعن الكاتب في هتك حرمتها كظاهرة مقدسة في المنظور الكلاسيكي للكتابة . واختراق معايير فصاحتها التي أضفتها عليها البلاغة القديمة مما يكشف عن تصور إبراهيم درغوثي للرواية / ولغتها . إذ تبدو ذلك الجنس الأدبي الهجين ” الذي تنفتح فيه اللغات كما تلتقي في جسده سلالات المحكي ولغاته بكل لغط الشوارع ومظاهر التعبير الاجتماعي اللغوية ” ( 34 ) .
فالكاتب يخون في لغة خطابه الروائي كل التنظيرات التي تتأسس عليها البلاغة العربية القديمة من خلال نحته للغته الخاصة التي تسمد بلاغتها من رفضها كل أشكال البلاغة وتحررها من قيودها وهو ما يكسبها طابعها الحداثي باعتبارها تمثل عنصرا مهما من عناصر الحداثة الأدبية ” حيث أصبحت أشكال التعبير وأساليبه وطرائقه كلها تحت الاختبار مؤدية إلى ما يشبه ثورة الكلمة ، تلك التي تجليها الاستخدامات الجديدة للغة والنظر إلى العمل الفني من حيث هو حوار بين الفن وأداة التعبير الخاصة به .( 35 ) وهو ما يعكس مدى ما يمتلكه الكاتب من قدرة على التخلص / التحرر من تركة القيود الأدبية واللغوية القديمة ، مادام المفهوم الحداثي للنص الروائي يجعل منه أفقا مفتوحا على الواقع / والتوقعات وعلى حوارية الوقائع التاريخية والوقائع المتخيلة والشفوي مع المدون ، والبصري مع الموصوف . وهو ما سيتجلى في المتن الحكائي وبنية شكله ، وأنساق خطابه السردي مثلما تعرضها أبواب الرواية الثلاثة عشر . وهي أبواب وعن بدت من حيث شكلها السردي مستقلة عن بعضها البعض ، إذ يحمل كل منها عنوانا رئيسيا وآخر فرعيا أو أكثر . مما ينهض علامة دالة على تشظي الحكاية . ومن ثمة تدمر النظام التعاقبي للسرد، فإنها في الحقيقة وثيقة الاتصال ببعضها البعض من خلال شخصية درويش التي تمسك بخيوط اللعبة السردية إذ تمثل مدار الحكي مبتدأ ومسارا ومنتهى ، حيث تستقطب سائر الشخصيات الروائية التي تدور في فلكها ، وتفعل في مجمل الوقائع والأحداث ، سواء تلك التي تستعيدها عبر سحر الحكاية أو تلك التي تسهم في إنجازها أو تلك التي تنقلها وقد كانت شاهدة عليها . وهي المفارقة الجمالية / والدلالية التي تسم البنية اللغوية لعناوين الأبواب قبل متون الحكاية ومختلف عناصرها السردية . وهي مفارقة نطال المكان وقد تماست فيه التخوم بين المرجعي / والعجائبي ، الأرضي / والسماوي ، التراثي / والحديث ، والزمان كذلك وقد تعالقت فيه كل الأزمنة من بدء الخليقة إلى حرب الخليج الثانية في العقد الأخير من القرن العشرين . والشخصيات أيضا التي حملت بنيتها طابع المفارقة مما أضفى عليها كثافة في أبعادها الجمالية والدلالية . فضلا عن أنساق اللغة والخطاب . وهي كلها علامات تمثل دلائل على منظورات الكاتب الجديدة لشروط الكتابة الروائية وآلياتها ، والتي لم تترد في إعلان قطيعتها و ثوابت الرواية الكلاسيكية التنظيرية منها والإجرائية .
فتعامل الكاتب مع الفضاء في هذه الرواية تعامل نوعي إذ يدركه بنية خاصة وعنصرا فاعلا في الحكي : شخصيات ووقائع . وكذلك بحكم ما يتوفر عليه من دلالات تتجاوز المرجعي ، إلى الرمزي والزماني إلى التاريخي ، ” فإذا كانت للفضاء أزمنته فله تاريخيته ، أي أنه مجال للسحر والخرافة والأديان ، وصراع الإيديولوجيا ، والرموز الكامنة فيه تظل في حاجة إلى الكتابة التخييلية التي تلتقط إشاراتها وأصواتها وأبعادها الرمزية ( 36 ) .
فالفضاء في هذه الرواية هو فضاء للكتابة والرواية حيث تمارس الحكاية سحرها عبر أشكال التداعي والاستيهام ، والحلم ، والتذكر ، وأسطرة الواقع من خلال استدعاء الخرافي ، والغريب والعجيب والخارق والماورائي .
وقد نجم عن أسطرة الواقع ، أسطرة الفضاء ، حيث تداعت الحدود بين الأماكن التي تتناسل بشكل غير منتظم ، وتتجاور رغم تنافرها ، قبل أن تنتهي إلى أن تتصادم بحكم غلبة طابع المفارقة على ما يقوم بينها من علائق تتميز بمنطقها الخاص الذي تهيمن عليه الفوضى ، علامات دالة على جماليات المكان في هذه الرواية حيث تتداخل الأماكن المرجعية المحلية منها كالواحة والقرية والجبل والزاوية والتاريخية لبلد العرب والمسلمين ممثلة في جزيرة العرب وبغداد وسامراء والحيرة والمقطم ودمشق ، والعالمية لبلاد الغرب مجسدة في أنجلترا وأمريكا . حيث السيبر ماركت والأنتربول ونزل الأنترناشيونال . وفرنسا الشهيرة بعطورها الباريسية . بالأماكن ذات البعد الماورائي ، الجنة و جهنم و بالأسطوري .إنها جدلية المكان وقد تعددت تقاطباته : الشرق والغرب ، الأرضي والعلوي ، المدنس والمقدس ، الواقعي والأسطوري . وذلك بفعل ما لحقه من تشظ، ينهض دليلا على نزعة الكاتب التجريبية ، ومنظوره الجديد للفضاء ، بنية ووظيفة ودلالة داخل العمل الروائي . وهو المنظور الذي يفصح عنه الكاتب ذاته في قوله : ” المكان فقد قدسيته القديمة كزاوية للتبرك يتمسح على عتباتها المريد ويطوف لأركانها ركنا ركنا واضعا نذرا هنا وشمعة هناك ، وطائفا بالعتبات متمسحا بالتوابيت العتيقة – المكان تحرر من هذه السلطة ، ووهن نفسه للمبدع يفعل به ما يشاء – ” ( 37 ) .. وهذا ما يعلل كثافة الدلالات والرموز التي انتهى إليها الفضاء في هذه الرواية ، وذلك بفعل ما سلكه الكاتب في تشكيل عناصره المكانية من مذهب في الكتابة يقوم على المراوحة بين الإعلان والإخفاء ، التعري والتنكر ، التحديد والإطلاق ، الواقع والتخييل ، على تركيب الأماكن في أنساق تصدم ذائقة المتقبل بحكم طابعها المفارق واللامعقول . إلا أنها تمتلك العديد من مفاتيح مغالق الرواية ومداراتها حول الحياة والموت ، الحرية والقمع ، الواقع والأسطورة ، الانتماء واللاانتماء ، الهوية والاستلاب ، في زمن العولمة وهيمنة النظام العالمي الجديد .
وهو ذات التشظي الذي يلحق بنية الزمن ذات الطابع المفارق هي الأخرى ، بعد أن أمعن الكاتب في تدمير أنساق نظام التعاقب قبل أن يستبدلها بأخرى تتداخل فيها التخوم بين الأزمان القديمة والأزمان الحديثة ، حيث يتم في الأولى استدعاء أزمنة موغلة في القدم تعود إلى بدء الخليقة وما كان من خطيئة آدم وحواء ، وما جد لإبراهيم الخليل من قوم النمرود ، وغلى الخرافة وما يسم حكيها من عناصر العجيب والغريب والخارق ، مثلما تمثلها قصص كرامات الأولياء والصالحين ، وإلى التاريخ العربي الإسلامي وما يتميز به من قيم أخلاقية وسلوكية كالكرم ن الذي يمثل حاتم الطائي نموذجا دالا عليه . والبذخ الذي يمثل الجامع المشترك لأغلب الحكام وحواشيهم ، ويعرض الكاتب نموذجين دالين عليه هما : المنذر بن النعمان ملك الحيرة من خلال حفل العشاء الذي أقامه والخليفة المعتضد العباسي وما كان من حفل زواجه من قطر الندى . إلى جانب تركيزه على تعرية مل كان يأتيه حكام بلاد العرب والمسلمين من ممارسات قمع وقهر لمحكوميهم خاصة المعارضين منهم لسياساتهم . مثل تنكيل الخليفة المكتفي بمعارضيه من القرامطة . وكذلك الخليفة القاهر . وهي تعرية تدين أشكال القمع التي تدمر إرادة الإنسان لتحول فعله إلى عجز ونطقه إلى صمت .
أما في الثانية وهي الأزمان الحديثة ، فيستعيد الكاتب التاريخ الحديث لجزيرة العرب غداة اكتشاف النفط ، وما كان له من آثار سلبية على قبائلها ، ومذاهبهم الحياتية ، بعد أن حولتهم الثروة إلى مجتمعات استهلاكية لمنتجات العالم الرأسمالي ، مرموزا إليها بمحلات السيبر ماركت التي انتشرت في كل أنحاء الجزيرة ، فتعممت أشكال تبعيتهم الاقتصادية والسياسية للغرب ، مما يعلل حال العجز صفة متمكنة منهم . وقد سلبوا القدرة على الفعل في ظل هيمنة النظام الرأسمالي وتنامي عداء الغرب للعرب حيث ” يطارد العربي في المطارات الغربية مدانا حتى تثبت براءته ” (38 ) . وتشن حرب مدمرة على العراق في مناسبتين – وهي الحرب التي كتبت على وقعها هذه الرواية –
وهكذا فإن الزمن يتناسل في هذه الرواية ، يتعدد ويتنوع قبل أن يعمل الكاتب إلى تفتيته وعرضه في أشكال يسمها التداخل بنية ، والمفارقة دلالة . مما يجعل الرواية تنبني على أساس انفتاحها على التاريخ والواقع الذين يلعب الكاتب بأنساقهما كيفما يشاء إلا أنه ” ورغم تعدد الأزمنة وتداخلها فالزمن التاريخي هو الطاغي ، ولكن الراوي يتلاعب به تلاعب دالا ، فلا يستحضر إلا ما كان للسياق مواتيا ولمقاصده مؤيدا غير عابئ بين الشخصية والحدث التاريخي ولا بمواصفات الواقعي والمنطق ( 39 ) .
ويتمثل غرض الكاتب من وراء كل ذلك في التأكيد على ان ما آل إليه العرب والمسلمون في أواخر القرن العشرين من ذل وهوان واستلاب مكن الغرب منهم ومن بلدانهم وما تزخر به من ثروات يجد تعليله في تاريخهم القديم والحديث حيث تمكن السكون إلى حياة الدعة والرفه من الحكام والحواشي ، إلى جانب استشراء ممارسلت القمع والقهر على الرعايا وخاصة المعارضين منهم . وهي الممارسات التي تمتد في الزمان / والمكان لتكتسب صفة الديمومة وتشكل موضوع إدانة الكاتب للسلطة . يفصح عنها على لسان درويش وهو في حضرة السلطان حسن الحفصي ” لقد خوزقك التاريخ يا مولانا ” ( 39 ) .
كل هذا ، يكشف عن رؤية حداثية ميزت تعامل الكاتب مع الزمان مكونا سرديا منتجا للحكي ومسهما في تناميه . وهي رؤية تنبني على رفض منطق الزمن من خلال التمرد على الثابت من أنساقه والانتقال بحرية مطلقة بين الأزمنة بعد أن توصل إلى تحقيق ذلك في اشتغاله على الفضاء / وأماكنه : رؤية وتشكيلا.مما أكسب الفضاء والزمان معا منطقا خاصا مغايرا للمنطق السائد . وهو المنطق الذي ستكرسه شخصيات الرواية من حيث بنيتها ودلالتها .
فقد عمد الكاتب إلى تفتيت بنيتها هي الأخرى وتعقيد دلالتها الجمالية والفكرية بسبب طابعها الاشكالي الناجم عن اسطرة الكاتب لها من خلال تداخل الواقعي / والعجائبي ، التاريخي / واللاتاريخي في تركيبها إلى حد الالتباس الذي يربك المتقبل . وإن كان ينهض علامة دالة على حداثة رؤية الكاتب للشخصية الروائية وخصائص تشكيلها في الكتابة السردية الجديدة . فالمتقبل مطالب بأن يلم شتات الشخصيات المبعثر والمتداخل حتى يركبه ليستقيم له وجود كل منها .وما يحمله من أبعاد فنية ويعبر عنه من رؤى ومواقف فكرية ، ويبرز – في هذا السياق – تمرد الكاتب على مفهوم البطولة مثلما تجسدها نماذج الرواية الكلاسيكية حيث جعل كل مكونات السرد تسهم في نسج الحكاية فضلا عن ادراجه لشخصيته مؤلفا ، ولشخصية القارئ ، فلا معنى للبطولة – في نظره – في زمن عربي خسر رهاتاته مع التاريخ بسبب فقدانه البطولة .
ثم نجده يرفض منطق التجانس في بنية الشخصيات النمطية لكي يقدم خليطا من الشخوص التي تستمد تجانسها من اللاتجانس ، ومنطقها من اللامنطق الذي يحكم علاقاتها ، ومعقوليتها من اللامعقول الذي يسم فضاءاتها المتباعدة : الأرض / السماء ، الشرق / الغرب ، وأزمنتها المتباينة ، بدء الخليقة / حرب الخليج الثانية ، وأفعالها المتقابلة ، الخير / الشر ، المقدس / المدنس . وهو خليط متنافر بفعل تنافر مرجعياته التي يسمها التقابل والذي لا يمكن أن يجمعه إلا فضاء الرواية الخاص وزمانها الخاص ، حيث يلتقي الديني : آدم ن حواء ، إبليس ،الملائكة وابراهيم الخليل ، بالسياسي : أمير المؤمنين القاهر ، والخليفة المكتفي ، والخليفة الناصر لدين الله ، والمعتضد العباسي والسلطان الحفصي ، وصاحب الشامة احد قواد القرامطة ، والمنذر بن النعمان ، وأبو العباس ، وأبو نضال ،ورونالد ريغن ، بالجتماعي : حاتم الطائي ، قطر الندى ، السائحة الأمريكية ، بالصوفي ، محي الدين بن عربي والحلاج ، بالفني : مايكل جاكسون ، وبالشعري : سعدي يوسف ، محمد العوني وقسطنطين كافافي .
غير أن هذا الزخم من الشخصيات ذات الأبعاد والدلالات المتباينة إن هو في الحقيقة إلا رافد إثراء وتنويع لثلاث شخصيات تمثل في الواقع بؤرة الحكي وأبعاده الدلالية ، مجسدة في غتى المتخيل الحكائي وعنفه في آن .وهي شخصيات درويش ونمرة وفرانسوا مارتال ، إلا أن البعد التجريبي لا يتجلى إلا في بنية الشخصيتين الأولى والثانية ، واللتين تقصد الكاتب اسطرتهما بأن جعل أبعاد كل منهما تخترق الواقع العجيب والخارق ، فتتماس بذلك التخوم بين التاريخي / المرجعي ، والتاريخي / المطلق إلى حد الالتباس .
فالبعد التاريخي لشخصية درويش تتجلى في هويته العربية الاسلامية ، والتي بدت في رشحه بمختلف مكوناتها الحضارية ، ودفاعه عن أصالتها بدعوة قومه غل التمسك بها وعدم الانصهار في حضارة الآخر الذي رمز له بشخصية فرنسوا مارتال . ثم أن هذا البعد المرجعي يبرز كذلك فيما امتلكه درويش من حس عاطفي تجلى في علاقته بنمرة /رمز شفيف للأرض العربية عبر صيرورتها التاريخية ، فضلا عما عبر عنه من نقد لرجال القبائل الذين ” توسدوا نهود النساء وناموا ” ( 41 ) .فيخيب أمله في امكانية استجابتهم لدعوته إلى الثورة وانجازهم فعل التغيير . ويقرر بعد أن ايقن لخسرانه لرهاناته مع التاريخ : ماضيه وحاضره ، الالتجاء إلى الكهف زجماعته ، واتخاذه منفى .وهي نهاية دالة على احساسه بانغلاق الأفق ، واستحالة تغيير الراهن بعد ما كان من خذلان قومه له . وقد اعتبروه ساحرا ، حكى يستوحي قصة النبي موسى مع قومه بني إسرائييل ، في النص القرآني ، والنبي المجهول في ” اغاني الحياة ” لأبي القاسم الشابي ، وغيلان بطل مسرحية ” السد ” لمحمود المسعدي . نصوص ترجع الرواية أصداءها لتؤكد على زهد الفرد في الجماعة التي حالت دون تحقيقه لفعل الثورة على أشكال الراهن المتهافت .
وهكذا فإن وجه درويش / التاريخي يتجلى في عقل يفكر ووجدان يحس وكيان يتأمل في ما آلت إليه أوضاع الراهن من تدهور ، غير أن أبعاد درويش ” اللاتاريخية تبقى المهيمنة على بنيته القصصية وذلك من خلال تفنن الكاتب في إضفاء مياسم العجيب والخارق على صورته التي ترشح استيحاء من التراث الأسطوري للإغريق بأن جعله كائنا مزدوجا و غريبا ، نصفه إنسان ونصفه حيوان ، إذ ” كان له جناحان كبيران مزخرفان بألف لون ولون ” ( 42 ) .ومن التراث الخرافي الذي يشغل حضورا متميزا في الذهنية الشعبية .فكان درويش صاحب كرامات وصانع أعاجيب بحكم معاشرته للأولياء الصالحين ، وشهوده كراماتهم ، خاصة وقد كان أحد مريدي المتصوف محي الدين بن عربي ، فكان من خوارقه أن ” ربت مرة على ظهر حصانه فنبت للحصان جناحان ” ( 42 ) .كما ” حلت لعنته على من خالف أوامره فخرجت عليه ثعابين شريرة متحفزة ” (44 ) . ثم أنه مسخ ف ” استحال حجرا أصم اخرس ، فنسجت حوله الأساطير ” ( 45 ) .
كل هذا ينضاف إلى امتلاكه وجودا مطلقا في الزمان حيث يقدر عمره بآلاف السنين . إذ عاش أزمانا مختلفة ومتباعدة ، من بدء الخليقة إلى حرب الخليج الثانية في أواخر القرن العشرين ، شهد خلالها أحداثا كثيرة شرقا وغربا . وهو ما جعله ” شخصية مركبة إذا أريد له أن يكون عصارة حضارة ورمز ثقافة تجهد أن تكون في عصر لم تشارك في صنع ملامحه الكبرى بل أدارت له الظهر فنبذها دون أن يفنيها ” (46 ) .
أما شخصية نمرة، فقد تميزت – هي الأخرى – بهذا الوجه المزدوج / التاريخي واللاتاريخي ، الواقعي / والأسطوري ، مما يعلل تعدد صورها ن وتنوع أسمائها . ومن ثمة ثراء دلالاتها الرمزية . فتكون بذلك شخصية مفردا في جمع . فهي ابنة عم درويش ، وهي شهرزاد ، وهي نمرة بنت المنذر ، وهي الأم ن وهي إلى ذلك كله الأرض تحديدا أرض العرب المسلمين .
فبعدها التاريخي يتجلى في انتمائها البدوي / والحضري في آن ، وتحررها الأخلاقي ، ورفضها الزواج من درويش رغماغراءاته لها ، واستجارتها منه بصاحب الجبل ، مفضلة الكهف / المنفى على الاقتران به .
اما العلامات الدالة على اللاتاريخي في شخصيتها فتتمثل في امتلاكها ذلك الكيان المطلق الذي يتجاوز الزمان وحدوده . حيث عاصرت الأوائل وشهدت ما حدث في بلاد العرب والمسلمين من وقائع وتحولات، فضلا عن بقائها بالكهف الف عام ، غادرته على اثرها لتجد أحوال قومها قد ساءت أكثر مما كانت عليه منذ آلاف السنين بفعل استلاب الآخر لهم ، مما عمق أشكال تبعيتهم له ، فتكون نمرة في ضوء كل هذا رمزا شفيفا ” للارض العربية يدوسها الغرب منذ ألف عام ولا من حام ، وهو ( أي درويش ) العربي يعيش غريبا عن عصره ، يشده إلى الماضي تراث ونمط عيش وتفكير تجاوزهما التاريخ ( 47 ) .
وتجسد الآخر / الغرب الأوروبي والأمريكي شخصية فرنسوا مارتال رمز استلاب مقومات الهوية الأصلية واستبدالها بعناصر الحضارة الغربية ، مما يعكس ضعف الذات العربية أمام سلطة الآخر / الغرب ويعلل – في الآن ذاته – العلاقة الصدامية القائمة بين هذا الغرب الدخيل ودرويش . والتي تنهض نموذجا دالا على تلك العلاقة المتوترة / والمتأزمة التي تقوم بين الشرق والغرب وتجعل ” تعايشهما سلميا مستحيلا والتقاءهما على قاعدة وفاق وتفاهم أمرا غير وارد ” ( 48 ) . فالشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا بحكم عدم تغير نظرة أحدهما للآخر . فصورة الشرق في عيون الغرب تبقى صورة غرائبية / وعجائبية مغرقة في البدائية ، ومقترنة بالتوحش . وهو ما يفصح عنه فرنسوا مارتال في قوله عن درويش : ” أكل هذا الوحش الشرقي صور بدء الخليقة ” ( 49 ) .كما تبقى صورة الغرب في عيون الشرق صورة تقترن بالمدنس والكفر والمتهافت من القيم بدليل نعت درويش لفرنسوا مارتال ب “الرومي ” و ” الفرنسي اللعين ” ( 50 ) .وهو خطاب يؤكد امتداد توتر العلاقة بين الشرق والغرب في التاريخ القديم والحديث ، توتر تحول إلى صدام تجلى في حرب الخليج الثانية .
وقد طال العجائبي / والخارق وقائع الرواية وأحداثها ، والتي جاءت مفارقة للواقع / والمعقول في زمن تداخلت في التخوم بين المنطق / واللامنطق ، العقلاني / واللاعقلاني ، النظام / وفوضى الأشياء وهي وقائع تصدم ذائقة المتلقي ، وذهنيته التقليدية ، بعضها ينجزه درويش ، كان يمد رجليه في النار دوم أن يتأذى ، وهو فعل متوحى من مرجعية دينية مدارها قصة إبراهيم الخليل عليه السلام ، أو كان يطير في الأجواء متجاوزا قانون الجاذبية . وبعضها الآخر تحققه نمرة بدخولها على عمق الجبل ، وقد استجارت بصاحبه ن ومكوثها به ألف عام . كما يتعلق قسم كبير منها بالقرية التي ترتفع إلى الأعلى قبل أن تهوي إلى باطن الأرض متشظية ، فضلا عن إسهام الراوي / الكاتب في إنشاء قسم مهم منها .وسمه ب ” جامع كرامات الأولياء “يقوم فيه بسرد حكايات يمثل العجيب والغريب والخارق الجامع المشترك بينها ، في تكثيف ابعاد الرواية اللاعقلانية . ومن ثمة منطقها الخاص ، المفارق / والمغاير لمنطق الأشياء في الواقع . مثل حكاية ذلك ” الرجل الذي سكب البحر في ابريق ” أو ذاك ” الرجل الذي وضع رجله اليمنى في باب داره بالهند والرجل اليسرى على شاطئ الفرات ” . وغيرها من القصص التي توغل اللامعقول / والخرافة لطبيعتها الغرائبية والعجائبية .
واستثمر الكاتب في إنشاء حكيه وتركيبه على الصورة التي ورد عليها في الرواية – وهي الصورة التي تستمد شكلها من اللاشكل ، ونظامها من الفوضى ، أبرز التقنيات التي انبنت عليها منجزات الرواية الجديدة في الغرب الأوروبي والأمريكي . فافتتن بتفتيت السرد إلى درجة أن المسرود ورد متشظيا إلى وحداته القصصية الدنيا ، بفعل خضوعه إلى تقنيات التقطيع ، والاستطراد ، والتداخل ، والتذكر ، والهذيان ، والاستيهام . فجسد الفوضى السردية بامتياز . وفرض على متقبله إعادة بناء شتات الحكي وفق منطق سردي تنتظم فيه الأنساق دون أن تتشبع إلى حد التتويه .
اشتغل الكاتب بكثافة على تقنية التناص في شتى أشكالها ، فجعل روايته تنفتح على عدد غزير من النصوص ، تستحضرها لتقيم معها علاقات مجاورة تتحول إلى محاورة ، قبل ان تنتهي إلى مصادمة تتخذ شكل المعارضة التي تؤول إلى المفارقة : الجمالية والدلالية في آن . وهو تناص معلن يثبت بأمانة مراجعه أو يحيل غليها وينسبها إلى أصحابها . مثلما يتجلى في المقولات التي صدرت بها الرواية وفصولها . أو تلك التي تضمنها متنها الحكائي . وهو تناص مضمر يستوحي القارئ مراجعه بعد أن عمد الكاتب إلى صهر عناصر من النصوص التي استحضرها في سرده لتصبح جزءا منه . فتلتبس على القارئ التخوم بين السرد الروائي والسرود المستثمرة . وهو ما جعل سرد هذه الرواية سرودا تتعالق إذ تتلاقح ، وخطابها خطابات تستمد غناها الجمالي والدلالي من الحوارية التي أقامها الكاتب بينها داخل روايته رغم تباين مراجعها ، حيث نجد المرجع الديني : قصص آدم وحواء ، وابراهيم الخليل ، وأهل الكهب ، وبدء الخليقة ،. يتعالق والمرجع التاريخي / السياسي : المنذر بن النعمان ملك الحيرة وسيرة بذخه . الخليفتان القاهر والمكتفي وسيرة قمعهما لمعارضيهما . كما يتداخل مع المرجع الاجتماعي : نموذج حاتم الطائي . ويتقاطع مع المرجع الصوفي من خلال استثمار مقاطع من طواسين الحلاج ن ويتلاقح مع المرجع الأدبي عبر اثبات قصائد شعرية لكل من سعدي يوسف ، ومحمد العوني ، وقسطنطين كافافي ، ولكن الكاتب وهو يشتغل على هذه المراجع ، ويستحضر نصوصها في متنه الحكائي وخطابه السردي يسعى إلى اكسابها دلالات جمالية وفكرية جديدة في روايته تضفي على هذه الأخيرة مياسم حداثتها عبر علامات اختلافها وتميزها .
غير أن التشظيلا يقف عند سرد هذه الرواية وخطابها بل يتجاوزه ليشمل التشكيل البصري للكتابة . والذي يمثل علامة دالة على اختراق الكاتب لأشكال الكتابة السردية التقليدية بتقكيعة الجملة على وحداتها الدنيا لتستعير بذلك شكل الكتابة الشعرية الحداثية التي استبدلت نظام البيت الشعري بالسطر الذي يتفاوت من حيث الطول والقصر . وحولت البياض إلى نمط كتابة يتوفر على دلالاته الفكرية والجمالية ، تطلق عليه تسمية ” كتابة البياض ” . ويندرج ضمن هذا المنظور تعمد الكاتب تدمير الشكل التقليدي للكتابة الشعرية العربية من خلال تشظيته لبيت عمرو بن كلثوم التغلبي وكتابته وفق نظام السطر الشعري والتفعيلة ، مما يمثل علامة دالة على تجريبية هذه الرواية حتى في مستوى تشكيل الكتابة وتوزيعها في فظاء الورقة .
فالرواية فسيفساء أجناس سردية وشعرية عتيقة وحديثة . تهاوت الحدود بينها ، فولدت خليطا من النصوص يستمد حداثته من تآلفه الغريب وخليطا من الخطابات تستمد فصاحتها من رفضها الفصاحة . وتستكتب تميزها من انصهارها جميعا في النص الروائي مشكلة وحدته التي لا تقوم على المتجانس من العناصر بل على المتنافر . ولا على المتآلف بل على المتخالف . وهو ما يحقق لها التجاوز للسائد السردي ، والمفارقة للمنجز الروائي . وهي في كل ذلك لا تقصي السيرذاتي حتى وهي توغل في مسالك الغريب والعجيب والخارق مما يكشف عن تداخل الروائي / المتخيل والمرجعي ن وتعالقهما على حد الالتباس بفعل علامات التقاطع المبثوثة في النص والقائمة بين درويش الراوي / الكاتب والمؤلف ن منها ممارسة الكتابة القصصية والروائية ( 51 ) . فضلا عن تأكيد الكاتب ذاته استثماره لعناصر من ترجمته الذاتية بصريح قوله : ” فيه ( أي الرواية ) ما عشته بنفسي وأنا أتنفس الهواء وأشرب الماء وآكل و أتغوط وأمارس الجنس ” ( 52 ) . وهو السير ذاتي الذي صاغ الكاتب في ضوئه رؤيته النقدية لواقع عصره في بعديه الاجتماعي والسياسي .
فنقديته الاجتماعية تتجلى في جرأته عن الكشف عن مظاهر تهافت الأصيل من قيم الذات العربية – الإسلامية في الواقع المعاصر واستبدالها بأخرى دخيلة وإبراز ما لحق هوية العرب والمسلمين من مظاهر تشويه ومن أشكال استلاب وتبعية للآخر وتعرية مما تمكن من الكيان الفردي والجماعي من وهن ويأس من امكان تغير الأوضاع نحو الأفضل . فكان تحول ذلك الكيان إلى خواء وقد تعطلت الإرادة واستحال الفعل وتحول الواقع إلى لا واقع وقد فقدت الأشياء منطقها . ولا يتردد الكاتب في إدانة كل تلك العلامات الدالة على ما لحق الذات العربية / الإسلامية في الواقع المعاصر من ترد طال الأصيل من مقومات الهوية والكيان في صوغ تميز بعنف المتخيل الروائي .
أما النقدية السياسية ، فتتمثل في فضح الكاتب ” الوجه الآخر من الإنسان الشرير ، الصادي ، الذي يتلذذ بتعذيب أخيه الإنسان ” ( 52 ) . والتعبير عن موقف الإدانة لما تمارسه السلطة من أشكال قمع وقهر للذات الإنسانية ، بانتهاك حميمية الجسد / والنفس معا . وهي ممارسات تتخذ طابع الديمومة ، إذ تمتد في الزمان وعبر المكان لكي تتحول إلى فعل / ملازم للذات العربية وحالة دالة عليها .
إن رواية ” الدراويش يعودون إلى المنفى ” وإن كانت محاولة الكاتب ابراهيم درغوثي الأولى في الرواية ، فإنها قد تميزت بإبغالها في مسالك التجريب ، واعلانها القطيعة والنموذج السائد في الكتابة الروائية . فساءلت الكتابة ومشروعيتها ، والرواية وشروطها وأدواتها ، والواقع ولا معقوليته . وقدمت المنظورات البديلة في التعامل مع الفضاء وتشكيله ، ومع الشخصيات وتركيبها ، ومع الواقع والوقائع ن ومع الزمان وأنساقه ن ومع الخطاب ومكوناته ، ومع اللغة وسجلاتها ومستوياتها . وهي منظورات استمدت منها هذه الرواية العلامات الدالة على حداثتها بفضل ما توصلت إلى إنشائه بين مختلف المكونات السردية وداخل كل منها من علاقات تستند تميزها من اختلافها لا من ائتلافها ، ومن تداخلها لا من تعاقبها ، ومن تشظيها لا من تماسكها . وجميعها يتفتت ويتشتت و يتشعب إلى حد التتويه ليجسد بذلك فوضى السرد في أجل مظاهرها ، وفوضى الكتابة في أبلغ نماذجها . وهو ما يشكل العلامات الدالة على ما يمتلكه الكاتب إبراهيم درغوثي من وعي نقدي بشروط الكتابة الروائية وآلياتها . وهو وعي يتأسس عن البحث المغامر عن آفاق كتابة سردية مغايرة للسائد . وهو البحث الذي تستمد منه تجربة هذا الكاتب السردية طابعها التجريبي وأفقها الحداثي .
الهوامش :
* ابراهيم درغوثي : الدراويش يعودون إلى المنفى ( رواية ) دار سحر / ط 2 ، 1998
1 – كمال الرياحي : حوار مع ابراهيم درغوثي / مجلة عمان ( الأردن ) العدد 90 كانون الأول / دسيمبر 2002 ص / ص 34/42 .
2 – نشر الكاتب قبل أن يجرب الرواية مجموعتين قصصيتين هما :
* النخل يموت واقفا ، دار صامد للنشر والتوزيع صفاقس / تونس 1989 .
* الخبز المر ، دار صامد للنشر والتوزيع صفاقس / تونس 1990 .
ثم أصدر مجموعتين أخريين :
* رجل محترم جدا ، دار سحر للنشر – تونس 1995 .
* كأسك … يا مطر ، دار سحر – تونس 1997 .
3 – ابراهيم درغوثي : الخبز المر ، دار صامد للنشر والتوزيع – صفاقس / تونس 1990 .
4 – ابراهيم درغوثي : الدراويش يعودون إلى المنفى ، ص 139 .
5 – الرواية ، ص 5 .
6 – كمال الرياحي : الحوار المذكور .
7 – يوسف الشاروني : اللامعقول في الأدب المعاصر – الهيئة العامة للكتاب – القاهرة 1960 ص 19 .
8 – د . أمين روفائيل : ادغار آلان بو – مكتبة الأنجلو – القاهرة 1963 ، ص69
9 – ابراهيم درغوثي الدراويش يعودون إلى المنفى ، ص 8 .
10 – يوسف الشاروني : اللامعقول في الأدب المعاصر ، سبق ذكره ، ص 18 .
11 – ابراهيم درغوثي : الدراويش يعودون إلى المنفى ،ص 15 .
12 – يوسف الشاروني : اللامعقول في الأدب المعاصر ، سبق ذكره ن ص 20 .
13 – المرجع نفسه : ص 17 .
14 – المرجع نفسه .
15 – سعيد يقطين : اللعب والزمن والدلالة في ” الدراويش يعودون إلى المنفى ” – رحاب المعرفة السنة 6 ، العدد 33 – ماي / جوان 2003 ( 69-74 ) .
16 – ابراهيم درغوثي : الدراويش يعودون إلى المنفى ، ص 13 .
17 – سعيد يقطين : المصدر المذكور .
18 – ابراهيم درغوثي : الدراويش … ص / ص 14 / 15 .
19 – الرواية : ص 11 .
20 – آلان روب غرييه : الرواية والواقع الموضوعي ، ترجمة رشيد بن حدو ، منشورات عيون المقالات ، الدار البيضاء 1988 ن ص 27 .
21 – ناتالي ساروت : الكتابة الروائية بحث دائم ، ضمن كتاب الرواية والواقع ، سبق ذكره ، ص 12 .
22 – محمد عزالدين التازي ، شجرة الرواية في معتى الكتابة وفضاءات التجربة ن ضمن كتاب ملتقى الروائيين الاول . مهرجان قابس الدولي – تونس ، دار الحوار – سوريا 1992 ، ص70 .
23 – المرجع نفسه ، ص 71 .
24 – عمر حفيظ : التجريب في كتابات ابراهيم درغوثي القصصية والروائية ، دار صامد للنشر والتوزيع ، صفاقس – تونس 1999 – ص 25 .
25 – سعيد يقطين : المصدر المذكور .
26 – الرواية : ص/ ص 15 / 16 .
27 – الرواية ك ص 11 .
28 – محمد عزالدين التازي : المصدر المذكور ، ص / ص 71 /72 .
29 – المرجع نفسه ، ص 72 .
30 – ابراهيم درغوثي : الرواية ، ص 8 .
31 – الرواية ، ص 12 .
32 – الرواية ، ص 23 .
33 – الرواية ، ص 15 .
34 – محمد عزالدين التازي : شجرة الرواية في معنى الكتابة وفضاءات التجربة ، ص 78 .
35 – عبد الحميد العقار : اللغة الروائية وآفاق التجريب والحداثة في الرواية المغاربية ، ضمن كتاب ملتقى الروائيين الأول ، ص 198 .
36 – محمد عزالدين التازي : المصدر المذكور ، ص 82 .
37 – كمال الرياحي : المصدر المذكور .
38 – ابراهيم درغوثي : الرواية ، ص 85 .
39 – محمد نجيب العمامي : العالم الحكائي في الدراويش يعودون إلى المنفى ، ضمن كتاب حداثة التماسات ، تماس الحداثات ، دار سحر للنشر ، ب . ت ، ص / ص 132 / 133 .
40 – ابراهيم درغوثي : الرواية ص 91 .
41 – الرواية ، ص 40 .
42 – الرواية ، ص 80 .
43 – الرواية ، ص 84 .
44 – الرواية ، ص 128 .
45 – الرواية ن ص 200 .
46 – محمد نجيب العمامي : المصدر المذكور ، ص 136 .
47 – المرجع نفسه : ص 143 .
48 – المرجع نفسه : ص 139 .
49 – ابراهيم درغوثي : الدراويش يعودون إلى المنفى ، ص 109 .
50 – الرواية : ص57 و ص 132 .
51 – الرواية : ص 11 .
52 – الرواية : ص 15 .
53 – كمال الرياحي : الحوار المذكور .