توكفيل …
رحيم العراقي
مؤلف هذا الكتاب هو الباحث الفرنسي جان لوي بينوا الأستاذ في جامعة «كان» وفي أكبر المعاهد الفرنسية. وهو حائز على شهادة الدكتوراه في الفلسفة السياسية. وكان قد أشرف على إصدار الجزء الرابع عشر من الأعمال الكاملة لتوكفيل لدى منشورات غاليمار. كما أشرف على تنظيم مؤتمر عالمي كبير عام 2005 عن «توكفيل بين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية». |
وكان ذلك بمناسبة مرور مئتي سنة على ولادة هذا المفكر الكبير الذي اشتهر بزيارته لأميركا في ذلك الزمان وإصداره كتابا عنها تحت عنوان: الديمقراطية في أميركا. ومعلوم أن توكفيل الذي ولد عام 1805، أي في عهد نابليون بونابرت، هو من أشهر المفكرين السياسيين في فرنسا. بل وربما كان المنظّر الأكبر للديمقراطية الغربية والفلسفة السياسية الحديثة. |
ومنذ البداية يقول المؤلف ما معناه: إن هذه السيرة التي نقدمها عن حياة توكفيل وأعماله بمناسبة مرور مئتي سنة على ولادته هي عبارة عن تكريم له لأنه كان أول من طرح مشكلة الديمقراطية الحديثة بشكل صحيح وعميق. |
لقد كشف توكفيل منذ زمن طويل عن رهانات الديمقراطية والمخاطر التي تحيق بها. ومن بينها خطر انزلاق الأنظمة الأوروبية نحو الاستبداد أو عودتها إلى الوراء حتى بعد أن كانت ديمقراطية. وهذا يعني أن الديمقراطية ليست مضمونة سلفا أو على طول الخط وإنما ينبغي أن ننتبه إليها ونحميها من نوائب الزمان وتقلبات الظروف والأحوال. |
والواقع أن توكفيل عندما ألف كتابه الشهير عن «الديمقراطية في أميركا» كما يريد أن يقدم لمواطنيه وللأجيال القادمة كتابا يشرح فيه كيفية الاستخدام الجيد للديمقراطية: أي كيفية ممارستها بشكل صحيح. |
كان توكفيل من عائلة أرستقراطية فرنسية، وكان قارئا نهما لكتابات فلاسفة التنوير. ولهذا السبب فقد كان راغبا في بلورة علم سياسي جديد يتيح لفرنسا أن تتجاوز مرحلة الإرهاب أو الرعب الثوري الذي تلا الثورة الفرنسية كما هو معلوم. |
كان يعرف أن النظام الذي يليق بالأزمنة الحديثة هو النظام الديمقراطي وأنه سيفرض نفسه في المستقبل على جميع الدول المتقدمة. ولذلك فإن السؤال الذي طرحه هو التالي: كيف يمكن أن نقنع المواطنين بالتضحية بأنانيتهم الضيقة مع المحافظة على حريتهم من أجل حماية الديمقراطية؟ |
وقد فهم توكفيل أن الديمقراطية والاستبداد ليسا متضادين إلى الحد الذي نتوهمه. فالديمقراطية قد تضمن الحريات للناس، وقد تنحرف عن مسارها الصحيح وتؤدي إلى الاستبداد. وبالتالي فكل شيء يعتمد على استخدامها: أي هل نستخدمها بشكل جيد أم بشكل سيئ؟ |
والواقع أن الديمقراطية مهددة باستمرار، وهذا شيء نعرفه منذ الفيلسوف اليوناني الكبير أفلاطون. إنها مهددة من قبل خطابات الديماغوجيين السياسيين الذين يعرفون كيف يتلاعبون بعقول الجماهير. |
والواقع أن عامة الناس تجذبها الخطابات السياسية الكاذبة والتهويلية والبراقة أكثر مما تجذبها الخطابات الحقيقية الصادقة. وهذه ظاهرة اكتشفناها للأسف منذ زمن قديم. |
والدليل على ذلك أن الفاشيين استطاعوا إقناع الشعب الإيطالي بالانخراط في خط جنوني لا عقلاني، خط التطرف والقتل. وكذلك فعل النازيون وحركات أخرى سياسية عديدة. فقد استطاعت جذب الناس إليها بالملايين. |
هذا في حين أن عقلاء ألمانيا وإبطاليا لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا تجاه هذه الظاهرة المدمرة التي جرفت معظم أبناء الشعب معها. فهتلر وموسوليني كانا محبوبين فعلا من قبل الشعب. |
وما يقال عن الفاشية والنازية يمكن أن يقال عن حركات سياسية أخرى عديدة في الماضي والحاضر. فالناس تميل أحيانا إلى التطرف والمتطرفين. |
وبالتالي فهذا المنظّر السياسي الكبير «توكفيل» كان يريد أن يجنّب شعبه مخاطر الانزلاق إلى الدكتاتورية والانصياع إلى خطابات الديماغوجيين السياسيين وما أكثرهم. ومعلوم أنه مارس السياسية عمليا ولم يكن مجرد فيلسوف يعيش في برجه العاجي. فقد كان نائبا في البرلمان الفرنسي وساهم في صياغة السياسة الفرنسية أواسط القرن التاسع عشر ووضع لها الخطوط العريضة. |
ولكنه لم يستطع تحاشي العودة إلى الدكتاتورية بعد الانقلاب الذي قام به نابليون الثالث عام 1851، وهو الانقلاب الذي قضى على الحريات العامة وأجبر شخصا كفيكتور هيغو إلى الهرب من فرنسا. ولكنه لم يكن الوحيد، ومعلوم أنه لم يعد إليها إلا بعد سقوط الدكتاتورية وإعادة النظام الديمقراطي الجمهوري إلى سابق عهده. |
ومعلوم أن توكفيل اعتزل العمل السياسي عندئذ وراح يفرّغ نفسه لكتابة بحوثه الفلسفية ومن أهمها البحث التالي: النظام القديم والثورة الفرنسية. |
وفيه يتحدث عن الفرق بين النظام الملكي القديم الذي كان سائدا قبل الثورة، والنظام الجمهوري الجديد الذي ساد بعدها. |
وفيه ينتقد أيضا، ولكن بشكل ضمني، انقلاب نابليون الثالث على مبادئ الثورة الفرنسية والمنجزات الديمقراطية التي تحققت. |
والواقع أن توكفيل أدان الانقلاب الذي قام به نابليون الثالث يوم الثاني من ديسمبر عام 1851. لقد أدانه بقوة مثل فيكتور هيغو، وكان ذلك من خلال رسالة بعثها إلى مدير جريدة «التايمز» الإنجليزية، ولكنه طلب فهم عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية بالطبع. |
فنابليون الثالث، كأي دكتاتور، ما كان يسمح بمعارضة حكمه أو نقده بشكل علني. وقد امتلأت سجونه بهم. أما الذين فروا إلى الخارج فكانوا بالآلاف. |
وبالتالي فما تخوّف منه توكفيل، أي انزلاق الديمقراطية إلى الدكتاتورية، قد حصل بالفعل. فقد أمر الدكتاتور قبيل الانقلاب بيوم واحد باعتقال كل الضباط العسكريين المعادين للانقلاب. |
كما وأمر باعتقال جميع النواب المضادين له وكان عددهم يتجاوز المئتين. ثم خنق حرية الصحافة وبقية الحريات العامة. والأنكى من ذلك هو أن الشعب في أغلبيته كان معه. وهذا دليل على أن الشعب لا يعرف مصلحته في بعض الأحيان. |
والواقع أن رجال الدين المسيحيين لعبوا دورا كبيرا في إقناع الشعب الفرنسي بحكم نابليون الثالث حتى ولو كان استبداديا. ورضخ الشعب واتبع كلام الكهنة والمطارنة والخوارنة. وكثيرا ما لعبت الكنيسة المسيحية هذا الدور الرجعي المعادي للحداثة والحرية والديمقراطية. |
وهذا دليل أيضا على أن المعركة بين القيم القديمة والقيم الجديدة لم تكن قد حسمت بعد في فرنسا. فعلى الرغم من مرور مئة سنة على عصر التنوير والثورة الفرنسية إلا أن القيم القديمة كانت لا تزال هي الأقوى. |
والواقع أن توكفيل عاش في عصر رمادي إذا جاز التعبير: أي عصر لم يحتضر فيه القديم تماما بعد، ولم يولد فيه الجديد تماما، أو قل إنه ولد وترعرع ولكنه لم يصبح بعد من القوة بحيث انه يستطيع الانتصار كليا على القديم. |
ثم يتحدث المؤلف أثناء الكتاب عن سفرة «توكفيل» إلى الولايات المتحدة وكيف أنه بقي هناك فترة طويلة من أجل دراسة النظام الأميركي. ومعلوم أنه أعجب بالديمقراطية الأميركية التي كان الآباء المؤسسون قد رسخوها هناك: أي جورج واشنطن، وتوماس جيفرسون، وبنيامين فرانكلين، وآخرين عديدين. |
وقد حاول أن يقيم المقارنة بين النظام الأميركي والنظام الفرنسي لكي يكتشف نقاط التشابه والاختلاف ثم لكي تستفيد فرنسا من الميزات الإيجابية للديمقراطية الأميركية. |