لقاء مع الدكتور الراحل عوني كرومي وهو يخوض اول تجربة له في مجال الفن التشكيلي
اجرى اللقاء في برلين …عامر تايه
( الرسم هو هروب الى التراكم وتعميق الخبرة في عكس الموضوعات الحا كمة )
في قاعة براتر غالري في قلب برلين تجري التحضيرات للمعرض التشكيلي للدكتور عوني كرومي وهو يخوض تجربة جديدة تظاف الى تجاربه التي لاتنتهي في عالم الفن , حيث تجربته الجديدة هذه جائت وليس كما عهدناه في مجال المسرح بل في المجال التشكيلي الذي يرتبط بالمسرح بوشائج عميقة وكبيرة .فلوحات عوني كرمي التي تدخل عا لم الألوان الداكنة والسوداء التي تتعاشق معها ضربات اللون البرتقالي لتعطي دفئاً بصرياً للمشاهد وتعكس صورة من الصور المثيرة للتأمل حيث يضع المشاهد أمام مجموعة من التراكمات اللونية ومزيج من التكهنات والتأملات من حيث الأسلوب و التي تمثل وجهة نظر خاصة للتطور والتحرر من قيود اللوحة الكلاسيكية والأعتما د على فلسفة ما وراء الحواس , فيتعاشق الحس اللوني في التشكيل مع الحسي البصري منطلقاً من الصورة الدرامية في المسرح فعند لقائي به كان لي معه هذا الحوار.
هل تعتقد أن ممارسة الرسم هي طقس من الطقوس الفنية العبثية في الحياة؟؟
عندما كنت في مطبعة الأديب البغدادية وعندما كانت تظهر الأوراق التي تمتزج فيها الألوان وهي أخطاء طباعية وجدت في ذلك الكثير من الصور والتداعيات فكنت أتأمل التجريد العفوي وأرى فيه قراءات الى الواقع , كثيراً ما كانت ألهو بألألوان الطباعية وأقوم بطبع الأشكا ل العفوية على أوراق بيضاء وأمارس عليها الطبع اليدوي .
كان الفن التشكيلي بالنسبة لي عالم أحلم بأختراقه , وكانت أول مجموعة من المجددين التشكيلين عام 1965 مثار أعجابي لأنهم حاولوا عكس الواقع الأجتماعي والسياسي بوسائل غير طبيعية مبتعدين عن المحاكا ة وكا ن العديد منهم يحتفظ بالروح التشخيصية الغير أكاديمية لموضوعا ت وشخصيا ت اللوحا ت وكانت الموضوعة هي الحاكمة والقابلة للتفسير في اللوحة .. حيث يمكن أن يطلق عليَّ بأني متابع لحركة التشكيل في العراق كمشاهد يبني العديد من أفكاره وتقييماته الجمالية والفلسفية على ضوء المنجز الأبداعي .
والفترة الثانية التي أعتبرها مهمة هي زيارتي لأستوديوهات العديد من الفنانين ومشاغلهم الفنية الشخصية و بروح صداقية , فكنت أرغب أن أمارس هذا الهوى في عملية مزج اللون وأختيار منها مايمنح أنعكاساً لما أحس به وأراه في فضاء اللوحة . وكثيراً مادعيت لمزج هذه الألوان حيث قدم لي العديد منهم لوحاتاً لكي أضع عليها ألواناً أضافية زائدة كنوع من أنواع العبث واللهو والمعايشة..بعضهم حاول أن يكتشف اللون في داخل شخصيتي . فكنت أمارس هذه الأشياء كنوع أسنادي للعمل المسرحي لأن الثقافة البصرية تلعب دوراً في مجالات عديدة واحدة منها هو الضوء , فعملت على تصميم الأضاءة للعديد من الأعما ل المسرحية حيث أهتممت بأضاءة وسينوغرافيا العمل المسرحي , أي أصمم المشهد المسرحي بلونه وأضاءته وأزياءه كون العمل المسرحي عبارة عن لوحات متتابعة لصور وتشكيلات مسرحية . مما دفع بأعمالي المسرحية الى أكتشاف مفردات تقنية تشكل مع المنظر المسرحي مواد قابلة للتأويل والتفسير . لذلك فلكل عرض مسرحي مفردة مادية تسهم في بناء المشهد المسرحي وتقبل تأويله على سبيل المثال , البلاستك , صور الأشعة , الكراسي ,الحقائب الخ . وأخيراً أدخا ل الفلم السينمائي في بناء المشهد المسرحي وهذه المفردات في بعض الأحيان أبتعد عنها وبين الحين والآخر أعيد تشغيلها بالمشهد المسرحي برؤى جديدة وأفكا ر جديدة . بعد هذه المرحلة وعندما كنت أتردد على بعض المشاغل الفنية أوحى لي البعض منها في بناء اللوحة وتشكيلها ومنحني مواداً من التسعينيات والى الآن , وكانت مراحل متقطعة أرسم خلالها لوحة أو لوحتين وتنتهي الرغبة وتدفن على أمل أن تظهر في مجال أختصاصي الدقيق .. ففي قطر وفي عام 1985 رسمت لوحة لمدينة الدوحة محاولاً قراءة البنية والمنظور الذي أراه في غرفتي كنوع من أنواع القضاء على الوحدة والعزلة . فا لزمن أمام اللوحة زمن يجردني من الخوف والشعور بالوحدة ويمنحني دفء الأنتماء الى قرآءة النفس والذات
وهذا العمل أمارسه في اللحظات التي يتوقف فيها قلمي عن كتابة المواضيع والخواطر التي كثيراً ما أبت فيها مشاعري وأحاسيسي وكأنها يوميا ت تعبر عما أعانيه وأصرخ فيه مع نفسي في زمن بصعب فيه الصراخ , زمن تحولت فيه الجدران الى آذان صاغية على الذات ومرايا تخيف الأنسان من أنعكاس صورته . زمن أتوحد فيه وأتوازن كي لاأطفيء ضوء الأمل في البناء والعطاء على مستوى الفعالية الأجتماعية , أكاديمية كانت أو قيمة حرفية , وهي تبقي افكار مبثوثة في داخل جسم العرض المسرحي الذي لاأستطيع أن أعلن حقيقية ما أقصده على أمل أن تتم قرآءة هذا العطاء برؤى وخبرة المشاهد ومعرفته وواقعه المعاش .
ماهو نوع العلاقة بين اللوحة والعرض المسرحي ؟؟؟؟
العمل المسرحي عبارة عن صور متتابعة مشهدياً ودرامياً حيث في مرحلة الستينات درست تكوينات اللوحات الكلاسيكية وتشكيلاتها وأبعادها وبؤر التركيز فيها وتوزيع الشخصيا ت وكأني اطمع أن تكون كل فكرة أو موضوعة في المسرحية لكي تكون صورة , حتى في بعض الأحيان كنت أبحث عن مصور ذكي يصور هذه التكوينات و يمتلك حساً تشكيلياً لكي يستطيع أن يعكس جمالية الصورة المسرحية .. صحيح أن كثير من هذه الصور لاتحس ولا تلمس من خلال مسا ر العمل المسرحي لأن تداخل مكونا ت العرض المسرحي تتغير وكأننا في تتابع لروح عرض تشكيلي الا أنها تبقى في ذاكرة المشاهد أولأً والعاملين ثانياً , وأذكر أن يوسف أحمد في قطر صوّر عرض الرجال والبحر بعد أن أدهِش في توزيع الضوء والظل والحركة ولازال يحتفظ بهذه الصور لالكونها صور مسرحية وأنما لوحات تشكيلية أستطاع فيها اللون والشكل والفضاء أن يلعب دوراً مهماأ فيها .
أذن من أين تختار أفكار لوحتك ؟؟؟
أختارها من اللحظة التي أعيشها وأتفاعل فيها مع اللون وسطح اللوحة وما توحي الأشكا ل التي أقترب اليها وكأنها كلمات في صورة شعرية , وفي بعض الأحيان أتلمس واقعيتها في داخلي وفي الأخرى تغيب حيث أجد في اليوم التالي قراءة جديدة وتفسير جديد مما يجعلني أن أعيد العمل على بنائها وتراكماتها ولا أمتلك في هذه اللحظة أي خوف على غياب الجمالية التي أثرت فيَّ في الوهلة الأولى , لأني لاأريد أن أبدأ في بناء اللوحة على الصدفة فقط .. مع مرور الأيام تبدأ اللوحة تأخذ أعماقها بتكثف الزيت وتجلي الفكرة ذاتها , فما أخا ف عليه با لأمس أجده في اليوم التالي مع اللون الجديد والتشكيل الجديد يمنح الفكرة القديمة بريقاً يزيد من متعتي في التعامل والأستمرار مع الرسم وكأ ن اللوحة قد حملت جزءاً
من همي ومعاناتي وحررتني من كوابيس قد لاأعرف كينونتها . فا للوحة تسمح لي أن أعبر عما أرآه في التداعي والأستقرار , فكثيراً ما أقف أمام اللوحة خائفاً أن تغيب الصورة والفكرة التي بدأت في بنائها , هذا لايعني أني أمتلك
ثقة مطلقة با لمنجز فاللوحة لاتكتمل مادامت أمام يدي وأعمل معها باللون والضوء المتساقط عليها وكثيراً ما أذهب وأعود لأرى الأجزاء الناقصة حيث أن جميع اللوحات هي ناقصة وغير منتهية من وجهة نظري وخوفاً أن أقتل جنين الفكرة في داخل اللوحة , لأن اللون خطر جداً في أن يقضي على الأفكار التي أنبثقت أمام الشروع في اللوحة.
ماهو أذن الهدف من وراء هذه العملية الأبداعية ؟؟؟؟؟
أكتشاف الذات .
ألم تكتشف ذاتك في المسرح؟؟؟؟
ليس كل الذات .. فهي مسيرة بحث متكاملة في المسرح الذي أمتهنه وأهيمن على شروط العمل فيه . والنص الأدبي الذي يساعدني على أيصال أفكاري عندما أكون في حالة ذاتية بعيداً عن المجتمع وأخاف أن أنشره خوفاً من النحو والأملاء والقواعد وهي نفس الحالة التي أعانيها مع التشكيل , فأسس اللوحة الأكاديمية لاأستطيع أن أهيمن عليها وأجد حلولها بسهولة مثلما أجد هذه القدرة متوفرة في العمل المسرحي , حيث يلعب في كل أعمالي سواء أكا ن مسرحي أو تشكيلي أو أدبي, الأبتكا ر والأرتجال دوراً مهماً في منحي الشعور با لحرية , هذه الحرية التي لاتأتي من القواعد والثوابت والطرق والمناهج , ومثلما أريد أن أتحرر في المسرح من كل ما ذكرته أسعى أن أسند هذه الحرية بكتابة النص والشروع في اللوحة .. وتبقى شروط الأنتاج الأبداعي في بعض الأحيان متوفرة , فبا لكتابة لاأحتاج سوى الورق والقلم لكي أتحدث مع نفسي بروح الحرية وهكذا الحال مع اللوحة حيث أذا ماتوفر لي الزيت واللوحة وبالتالي البحث عن الأطار المناسب , حيث يلعب الأطا ر دوراً مهماً في التشكيل , فكثيراً ما أرسم الأطار ذاته أو أ بحث عن ما يناسب اللوحة من الأطارات في محلات الخردة في برلين ..
في أي موقع يأتي أهتمامك بالتشكيل مقارنة مع أهتمامك بالمسرح ؟؟؟؟؟
المسرح أولاًً وثانياً وثالثاً. . التشكيل هو محاولة للهرب من عدم القدرة على تنفيذ الأفكا ر في المسرح ..
هل هذا يعني الهروب الى السهل ؟؟؟؟
كلا بل هروب الى التراكم وتعميق الخبرة في عكس الموضوعات الحاكمة , وبما أننا في زمن يسير بوتائر سريعة جداً وفي تناقضات هائلة قد يصعب الأنتظار في أنجاز هذه الأفكار في العرض المسرحي الذي أصبح من الصعب تنفيذه ..
هل هناك من تأثرت به تشكيلياً ؟؟؟
علي طالب.. ذلك لأنه لايعلم الرسم أنما يعلم كيف يمكن للأنسان أن يعبر عن نفسه من خلال اللوحة . وهناك الكثيرين من اللذين أعجب بهم ولست متأثراً بهم لأني لا أستطيع أن أرى تأثيراتهم على المنجز .. أتمنى أن أما رس اللعب الفني بقدرتهم وأبداعهم مثلاً ( شاكا ل , بيكاسو , أوتو ديكس ) من الأسماء التي لايمكن نسيانها ونسيان موضوعاتهم ولوحاتهم حول الدمار والهجرة والرحيل الذي علمني الحب ..
هل أنت متواصل بزيارة جديد المعارض التشكيلية وبالأخص في ألمانيا ؟؟؟؟
بأستمرار, وأجد دائماً في البسيط والعظيم منها مايثير أنتباهي الى لوحة أو فكرة ليس بهدف تقليدها أنما أستثمارها في بناء سخصيتي المسرحية أولاًً والتشكيلية ثانياً ..
هل دفعتك أو حفزتك لوحة ما الى فكرة عمل مسرحي ؟؟؟
كثيراً منها دفعتني الى السعي في تحقيق فكرة عمل مسرحي …. يوماً ما وأنا مريض أدخلت الى غرفة العمليات يقودني الأطباء على سرير متحرك لأجراء عملية لقلبي , رأيت معرض ل ( علي طالب) بأكمله على جدران المستشفى الفارغة فبعثت بيّ الأمل لتذوق الحياة مرة أخرى . فاللوحة تعيش في ذاكرتي والشكل يبقى مغروساً , بالذات أذا كانت اللوحات تعني حقائق عن هذا الوجود , وعندما أخرجت مسرحية ترنيمة الكرسي الهزاز طلبت من علي طالب أن يدخل لوحاته ضمن روحية الشخصيات المعروضة في العمل وتعاملت مع اللوحات كونها أجواء تخدم تعميق الفكرة والعمل المسرحي , لأني أعتقد أن اللوحة عندما تكون متفاعلة مع الشخصية وأنعكاس لها , تقول الكثير بدون أن تضع صياغة محددة الى القول , وبما أن المسرح هو تجسيد لما هو غير مرئي ومحسوس بوسائل مرئية ومحسوسة , وجدت أن لوحات علي طالب تقول الكثير وتكمل هذا القول بدون أن تعلن عن ماهية القول ذاته ..
ليس الهدف من الرسم هو المنافسة مع الآخرين والهيمنة في الجودة الفنية , أنما هو تقديم الذات بالوجه الآخر وكأني أشارك الآخرين بتجربتي الكتابة والرسم , لأن مع كل لوحة سيكون هناك نص مكتوب يعبر عما يعيش في داخلي من خبرة وتجربة أأمل أن أساهم في أعطاء صورة لهذه التجربة لأني أؤمن أن الموضوعة ازلية ويمكن أن تنتقل بأكثر من وسيلة وأكثر من طريقة , فأذا كان عام 2003 قد شكل مرحلة تحول في وجهة نظري تجاه العالم وسيستمر مع خبرة أيام الخوف والدمار والرعب فسيكون نقطة للبحث عن الذات التي تأمل السلام والأستقرار وتغيير التفكير في رؤية الأشياء. فالدمار المصور في داخل اللوحات هو ذكرى وذاكرة مثلما الذكرى أو الماضي الذي يتداعى في داخل اللوحة..
عامر تايه
برلين كانون الثاني 2004