الرئيسية / نصوص / ذاكرة من تراب

ذاكرة من تراب

ذاكرة من تراب

 

                                                                                           عماد رسن

 

بين الشجيرات الحزينه يهفهف الريح حاملا ً آخر ماتبقى من وريقات الخريف وهي تتساقط على العشب الأخضر. كأن الريح تولول بصفيرها على تلك الوريقات الحزينة الساقطة من الأعلى! كما الصراخ الذي يولول في أذني حين كان موسم الخريف الذي لم يرحل عن تلك الأرض التي تلونت بالدماء. أنه خريف البشر! لم يسرق بصري لونها الفضي الذي مازال ملتمعا ً في ذاكرتي حتى بعد مرور أكثر من عشرين عاما ً, تلك القطعة النقدية من المعدن! لكن صوت تلك المسكينة وهي تصرخ في أول يوم عيد الأضحى قربانها الذي قدمته بغير رضا أثلج الحركة في عيني! لم أفرح بعيديتي التي وجدتها على الأرض كأن أحدا ً تركها لطفل بريئ, لأني لم أكن ككل صغار الكون حين يفرحون بهدية الأعياد. فذلك الموت الذي يختار بين الفينة والأخرى ضحيته من شارعنا الملون بلون التراب حين يعفر أقدامنا العارية, فمازال هذا اللون يصبغ ذاكرتي. ولكن لكي يحتفظ الشارع باستقامته فلابد من قرابين ومن أغلى مانملك من شباب تمتلكهم الأحلام, فيزرعون الزوايا بألوان ملابسهم الملونة التي تميز نفسها عن كل لون ترابي. فالجدران ترابية, والأرض ترابية, حتى الشبابيك تصبغ حواشيها بلون التراب! لقد ودعنا وهو يترنح بلون بدلته المفقعة باللون الأخضر قبل أسبوع فقط. حتى جاء بصندوق خشبي بلون شارعنا أيضا ً فلا أشجار خضراء كانت تعيش معنا, واللون الأخضر غريب عنا بل نتجنبه لكي لايزكم أنوفنا برائحة المجاري التي تمر من أمام بابنا, والتي تلعق أقدامنا اللطيفه من طحالبه الشيء الكثير, وذلك عندما تغور تلك الكرة البلاستيكية التي نلعب بها في قاع مستنقعنا.

 

لقد كان لون عبائتها يتطاير كالشظايا على ذلك الصندوق المسمر حتى الإحكام. كأن في ذلك الصندوق سر يجذبها وكل عبائات الحي! فيولولن حتى النعيق كأن كل عباءة ستتشظى على صندوق آخر بعد حين حيث يختار الموت ضحيته القادمة.

 

 لم أر شارع سخي بالهدايا كشارعنا! فمع كل دورة من دورات الزمن السياسية يقدم القرابين! كأنها دورة حياته الطبيعيه. فمابين من يصلون ويركعون, وبين من يتأنقون ويلبسون أجمل ملابسهم, وبين من يسكرون ويتباهون بقراءة روايات دستوفسكي.  أما التماع الخمس فلوس التي وجدتها صبيحة أول يوم من عيد الأضحى لم تمح من رأسي بريق التماع  المسامير التي تحكم التابوت والتي مازالت راسخة في رأسي. وتسمرت معها كل مشاعري الصبيانية, وصرت لا أعرف أن هناك فصلا ً غير الخريف حيث يتساقط الرجال تحت ريح عاتية, ولا ينتظرون حتى هطول المطر للنبت بعدهم نحن الصغار.

 

سار الصندوق ببطئ شديد كأن مساميره لاحت الأرض من ثباتها, ورؤوس محنية نحو الأرض حسبتها ترقب التماع الخمس فلوس التي وجدتها. لكنها كانت تذرف الدموع بإنتظام, وبالخصوص ذلك الرجل المعطر من رأسه حتى قدميه! ذلك الذي يحمل حقيبة شفافة بها انواع الزجاجات من العطر وهي تفوح بعبقها على كل شارعنا, فقد كان مميزا ً بصايته الأنيقه وحقيبته الزجاجية وعطره حينما يمشي. لقد كان أول السائرين لقربانه الذي طغت رائحته على كل مايحمل من عطر. وأخيرا ً تلك الغيمة من العبائات السود وهي تحلق في فضاء مهيب. ذلك الفضاء الذي يمتزج به الدم برائحة العطر بلون  التراب الذي مازال يصبغ ذاكرتي التي لم تفر منها التماعة الخمس فلوس بلونها الفضي ولا لون مسامير صندوق من ودعنا قبل أسبوع.

 

 

 

 

عماد رسن

 

Imad_rasan@hotmail.com

عن عماد رسن

شاهد أيضاً

اللغة المشتهاة

بقلم : عبد المالك زيري أَقبلْ على العالم من جديد وانظر إليهِ كما أنظرُ إليكَ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *